تتميز وسائل الإعلام الجماهيري بالقدرة على إيصال الرسائل بسرعة إلى جمهور كبير متباين في المستويات والاتجاهات، وبذلك يتمكن الإعلام من تكوين رأي عام لدى الجماهير وينمي لديهم الاتجاهات والأنماط السلوكية، وتعد وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية اليوم أحد أهم الوسائل التي تتم بها عملية الاتصال الإنساني.
وبما أن إنتاج الثقافة ونشرها هو أحد الأدوار المتعددة للإعلام، فإن تطور الوسائط الإعلامية أنتج ما يعرف بوسائل "الإعلام الثقافي" المتخصصة في نشر الثقافة من خلال البرامج والفعاليات، وتعتبر القنوات الفضائية اليوم من أهم وسائل الإعلام الجماهيري المفترض أن تكون مؤثرة بشكل إيجابي في نقل الثقافة وانتشارها.
ونظراً لطبيعة الإعلام الثقافي فإن ما يتميز به هو الواقعية والبعد عن الأسلوب الدعائي، لما يقدمه من أبعاد معرفية في المضامين الإعلامية التي يفترض أنها تحقق المعرفة وتعزز من قيمتها لدى الجمهور المتلقي؛ ولذلك فإن نجاح برامج الإعلام الثقافي متوقف على نجاحها في تحريك الفعل الثقافي في ذهنية الجماهير.
ورغم أهمية الإعلام الثقافي، فإن بعض الدول لا يوجد في وسائلها الإعلامية برامج ثقافية، ويبدو أن ذلك بفعل وجود الحريات العامة ومنها حرية تأسيس وعمل وسائل الإعلام، وسهولة تحرك وسائط ومراكز الثقافة من خلال المؤسسات التعليمية، والثقافية، ومؤسسات المجتمع المدني، لبث الثقافة ونشرها، إلا دول العالم الثالث ليست في مصاف المقارنة أبداً ببلدان أخرى مثل ألمانيا أو فرنسا أو الدنمرك.
وهذا ما يدعو إلى ضرورة الاهتمام بالإعلام الثقافي، على المستوى الحكومي على وجه الخصوص، لأن الهدف غير ربحي في تأسيس وسائل الإعلام الثقافي.
ومن منطلق الأهمية، فقد خاضت بعض الدول العربية تجربة الإعلام الثقافي عبر تخصيص قنوات فضائية تبث (كل ما يقع ضمن مفهوم الثقافة الذي تتبناه)، وفي المملكة العربية السعودية أنشأت وزارة الثقافة والإعلام قناة "الثقافية" التي تعتبر أحد المشاريع الإعلامية المهمة، وأنا أتناولها في هذا المقال من منطلق الاهتمام بها وتمثيلها للثقافة، ما يجعل تناولنا لها نقدياً مرده الطموحات والآمال في التطوير.
ورغم ما تتميز به قناة "الثقافية" من مساهمة فعالة بنقل الوقائع والأحداث الثقافية المختلفة -التسجيلية والمباشرة - إلا أن برامجها الثقافية لم تزل بحاجة إلى التطوير، وبذل مزيد من الجهد، وخاصة بعد تقلص البرامج الثقافية الحوارية المباشرة، والتركيز على الفترات التسجيلية الطويلة ولا سيما الأفلام الوثائقية، وربما أن انتهاء، أو إلغاء، بعض البرامج الثقافية الحوارية قد سبب فراغاً حيوياً في القناة، فكثير من البرامج التي نشاهدها يعتريها القصور، لما تبعثه من ملل يدعو إلى الضغط على (الريموت كونترول) للبحث عن قناة أخرى متخصصة، فبعض البرامج المعروضة تعود إلى سنوات طويلة، ومضمونها من النوع الذي عفا عليه الزمن نتيجة الثورة في تقنية الإعلام والاتصال، فمن خلال محركات البحث، والموسوعات الإلكترونية، ومواقع الإعلام الجديد، يستطيع المتلقي الحصول على معلومات جديدة ومفيدة ومسلية في الوقت ذاته، كما أنه يستطيع مشاهدة قنوات متميزة جداً في مجال العروض الوثائقية، ومنها على سبيل المثال: "الجزيرة الوثائقية"، و"ناشيونال جيوجرافيك-أبو ظبي".
بينما من المفترض أن توازن برامج القناة بين فئات المشاهدين، وتسهم في بث الثقافة السعودية وتمثيل المثقف السعودي والتعبير عنه، وفقاً لتطلعات المشاهد النخبوي، وهذا يحتم اتخاذ إجراء يمكن أن أقدمه هنا كمقترح تطويري في أحد أمرين يتخذ أحدهما: الأول إعادة صياغة أهداف القناة لكي لا تختلط فيها الرؤى، تراعى فيها الموازنة بين فترات البث التسجيلي والمباشر، والاهتمام بنوعية الرسائل والمضامين الإعلامية الثقافية، وفقاً لاهتمامات المشاهد المختلفة، وهذا يستلزم مزيدا من البحث عن الإبداع والأفكار الخلاّقة.
أما الأمر الثاني فهو وضع روافد جديدة للقناة من خلال تأسيس قنوات جديدة تابعة لها (الثقافية1، الثقافية2، الثقافية3)، تكون أكثر دقة في تخصصها بالإعلام الثقافي، يوفق فيها الأطر النظرية متوافقة مع الأطر النظرية فيها حتى لا يعاق دورها المفترض، أو جزء منه، ولا تتبدد الجهود المبذولة في صناعة الإعلام الثقافي أمام جسامة الدور، في زمن التطور المتسارع في تقنيات ووسائل الإعلام، مما يدعو إلى التخطيط لصناعة هذا النوع من الإعلام، بالاعتماد مفاهيم ومعايير محددة للثقافة، ومن ثم تحديد الأهداف المرجوة وفقاً للفئات المستهدفة، وتخصيص ميزانيات متوافقة مع هذه الأهداف، وكذلك البحث عن الكوادر البشرية المحترفة في المجال الثقافي والإعلامي، وتطوير الوسائل والتقنيات المستخدمة في تقديم الرسائل الإعلامية وما تحويه من مضامين ثقافية.