إن طلب التعايش مع واقع خاطئ أو مشكلات من أي نوع يدل على النوايا الكاملة بعدم الحل الجذري لها، فعدم التصنيف بالخطر لما يحمل يبقيه في مراحل الحضور، والعكس بالعكس، فالفقر لا بد أن يكون عدوا لمن أراد القضاء عليه، وكذلك المرض والجهل والبطالة، وتخفيض أثر الأربع تتكرر كإحدى استراتيجيات الدول، وكل ما يستحق السيطرة أو القضاء عليه فلا بد أن يكون عدوا، سواء سمي حقيقة بهذا الاسم أو هو بشكل عملي يمثل هذا النوع من التصنيف، فالداعي إلى التصنيف نابع من احتياج ثقافي وخطط استراتيجية لكل أمة، ولكن يختلف حال أن تسميه عدوا أو تجعله عمليا كذلك، بدون رغبة القضاء عليه، وكينونة تصنيفه لا تعني ثبات أساليب وطرق وآليات حله أو علاجه، أو إيقاف الحل أو رفضه، لتكون وسيلة للفرد أو للجماعات بغية النهوض أو الهبوط أو إنهاء مشكلة أو صنعها لتبرير خير أو شر أو إبقاء الحال في مرحلة رمادية تقتضيه المصلحة أو الانتهازية، فالكلمة (العدو) قد غادرت الإنسان مبكرا من معناها الأصلي إلى حياد الاحتياج، وهذا ما عبر عنه الرئيس الأميركي وليام ماكينلي عام 1898، مبررا غزو الفلبين كعدو - كما برر غيره غزواتهم - عندما قال: (نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها، لكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام، وطلب مني أن نتصرف كأميركيين ونذهب إلى الفلبين، لنشر المسيحية ولكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة!)

فعدم تحضر الفلبين جعله ماكينلي العدو المفترض، مع أن الفلبين في ذلك الوقت مسيحية منذ زمن طويل، بأغلبية ديانة السكان، وذلك بجهد الدول الاستعمارية والمبشرين، فالموقع الجغرافي وخصوبة الأراضي داعية لذلك، ولكن لا بد من سبب يقنع به أمهات الجنود المجيشين في زمن العتمة الإعلامية في أميركا، ولم يزل الاستعمال قائما لمن يبحث عن البديل لأزمات مبرر التوسع لسبب ديني أو ثقافي أو أخلاقي، وقد فعلت ذلك الكثير من الدول المستعمرة في أفريقيا خاصة في القرن السادس عشر وما بعده تحت ذرائع متلونة ومتنوعة. يقول كبير أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو (عندما وصل المبشرون إلى أفريقيا كان معهم الإنجيل وكانت معنا الأرض، قالوا هيا بنا نصلي، فأغلقنا أعيننا واستغرقنا في الصلاة وعندما فتحناها وجدنا الإنجيل في أيدينا والأرض معهم) بل هناك استعمار وصل به الحال لأن يكون مبرره فض نزاعات القبائل وحماية حقوق عرق أو عنصر بشري ضد آخر، أما عدوه المعلن فهو الظلم وانتهاك حقوق الإنسان، وكان هناك من التردي في عقول المستعمرين - بفتح الميم - من أعطاهم بواقعه المبرر لكل شيء على طبق من ذهب بكل ألوانه.

وقد يكون من باب الحل البديل صناعة عدو بديل، فقد يستعاض بالعدو في إطاره المذهبي ويصنع له كامل منظومة العداء ويستعدى لحضور معارك الإعلام كل أطياف المجتمع التابع انسياقا أو هاويا أو محترفا وخلفها جيوش الدهماء الذين (درسوا وحسبوا أنهم تعلموا) لتحل المذهبية أو الطائفية بديلا عن العدو الديني والعدو الفردي المتسلط، ولتملأ الفراغ وتشبع رغبات الأتباع ويصبح الصباح، فإذاً أكبر أعداء أمة من الأمم مذهب مخالف أو مختلف، وليس ديانة استعمار، أو أعداء حقيقيون.

وبالمقابل فالحاجة ملحة لوجود عدو يتربص بالأمم اليقظة، فوجوده يثير بقاء الهمة عالية والاستعداد قائم، والمواجهة قد تكون وشيكة فتجعل قوادح زناد الهمم مشتعلة لتلك الأمم التي ترغب في البقاء بأحسن حال أو النهضة من هبوطها أو ركونها، وهل هناك عدو قاتل وأشد فتكا من الدعة والسكون وحياة أحياء كالموتى تتزايد عندهم نغمات الاستسلام للواقع أيا كان والرضا بالحال، ويبحثون في دينهم أو في أساطيرهم عن كل كلمة يمكن النفخ بها لتبرر عدم الوجود الحقيقي فيكون الموت هو العدو! ولكن استراتيجية الأفراد والجماعات في العداء مع الموت إما أن تكون بانية أو هادمة، دافعة للأمام تجعل من مواجهته قيمة لزرع فسيلة أو للوراء للانشغال بهدم الحقائق لتوضع كشواهد للقبور.

دعي قديما كاتب عالمي لإحدى دول العالم الثالث - المتخلفة حضاريا والمتقدمة مهرجانيا - لأجل أن يمجد فيها مرور زمن معين على استقلالها الوهمي فشاهد تلك البلاد وجال فيها وتفحص أفكارها وكان يأمل أن يجد عبارات الثناء وأن يفتش عن ميزة تستحق أن تقال بين كم المباني والخرسانات الكثيرة، ثم كتب أبلغ مقال طويل كطول معاناة المسحوقين ثم ختم عن ذاك البلد قائلا: (غابات من الإسمنت وشعب ينتظر الموت) فهل هناك أسوأ من حال بشر يمنهجون حياتهم على إيقاف كل مفيد وكل فعالية ذات قيمة وكل دور له معنى ويفكرون بطريقة أن لا قيمة لبناء الإنسان ما دام أنه سيهدمه الموت - مع أن الواجب أن يقوم بدوره الفاعل قبل ذلك ويعيش المرحلة - وهذا النوع يظن أن أبسط معتقدات الإنسان بواقع موته يبرر الركون وفقدان الفاعلية، فهو جعل الموت عدوا ثم أساء موقفه من العدو فاستسلم لما سيجيء، وترك ما هو فيه، وقد توجد حكومات تدعم بكل قوة ثقافات الموت - كبديل للثقافة - وتحرك زلزال الخوف منه وقت الاحتياج عن طريق أدواتها البشرية، لتصنع تسونامي المواعظ والبكائيات وثقافات الدموع لتشغل عيون البشر عن رؤية دورهم وكرامتهم في الحياة، وعن عدوهم القريب، والدهاقنة سيفسرون الدور والكرامة بأنها آجلة لا عاجلة، وكأن هناك إعلانا يوميا لا يرى، يكاد يقول فلنبحث عن عدو جديد أهم شروطه الإلهاء عن الواقع، ويشترك ضحاياه في البحث.

يقول فريدريك نيتشه: (الاعتقادات الخاطئة الراسخة هي أعداء الحقيقة وهي أكثر خطرا من الأكاذيب).