جمعتني إشارة ضوئية لمدة ثوان ببعض شباب عسير وهم في سيارتهم ضمن مواكب السيارات الشبابية من كل الموديلات والأنواع، ابتسمت، فبادروا بالسلام، وبدأ الحديث، من أين أنتم؟ فقالوا: من خارج أبها. ماذا تعملون؟ قالوا: مع الشباب. لماذا تتجمعون؟ وهل هناك شيء يحدث في المدينة؟ قالوا: اليوم فرة الثلاثاء. وما هي فرة الثلاثاء؟ قالوا: يتجمع الشباب من القرى والمحافظات والأحياء والكل يستعرض في سياراتهم مع زملائهم، قلت: ماذا يحدث بالضبط؟ قالوا: ندور بالسيارات في الشوارع وهناك سيارات طورها أصحابها، وأغان نسمعها، ونتعرف على من حولنا وما يدور في المنطقة، ونتبادل الأخبار، والبعض يفحط، ونقضي جل وقتنا في الشوراع، خاصة في أبها، لكونها منطقة سياحية. قلت: "طيب اذهبوا للمقاهي واجلسوا فيها أحسن لكم من قيادة السيارات في الشوارع"، قالوا: "ما معنا علي بن حسكول"، ضحكت ودعوتهم إلى تعريفي بـ"الفرة"، وتوقفنا عند محطة بعد الإشارة مباشرة. سألتهم ماذا يعملون؟ فوجدتهم طلابا، وبعضهم على نظام حافز. فقلت: ما رأيكم في نظام حافز، فقالوا: "تصبيره"، قلت كيف؟ قلت: طيب بصراحة ماذا جاء بكم؟ قالوا: الفراغ. قلت: ما رأي أهليكم فيكم؟ فقالوا: منهم من لا يسأل ومنهم الشديد، وفي الأخير ليس عندهم الحل. فقلت: أين الحل؟ فقالوا: في العمل. قلت: وكيف يمكن الحصول على العمل؟ قالوا: لدينا ملايين الأجانب "يشغلوننا بدلا منهم". نحن معظم أهلنا يعملون، وبعضهم حياتهم روتينية يسرحون ويروحون، ومن يعمل هم الأجانب. قلت لهم هل هناك فرة في المدن الثانية؟ قالوا: لا نعرف، ولكن المدن الكبار فيها وظائف كثيرة وأحوالهم طيبة، ولكن عسير ما فيها إلا دوائر حكومية موظفوها قليل، ولا توجد وظائف فيها، ومن يتوظف فيكون بالواسطة. قلت لهم: تقولون ما عندكم "علي بن حسكول" ومع هذا سياراتكم من مختلف الموديلات؟ قالوا: بصراحة كلها ديون وأقساط على الوالد والوالدة والأخوات ومن يحتاجنا سائقين لهم. قلت: "طيب والجوالات ما شاء الله من أحسن الأنواع كيف تسددون الفواتير؟" قالوا: نحن موظفون عند الأهل ويصرفون لنا الجوالات ويدفعون الفواتير ويتكفلون بالغذاء واللبس، أما العلاج فلا تسألنا عنه، المشكى على الله. وماذا يدفعون لكم أيضا؟ قالوا: ما يقصرون، ولكنهم الآن ديونهم تجبرهم على عدم التقاعد المبكر حتى يتمكنوا من تسديد الأقساط والديون المتراكمة عليهم. قلت: ما رأيكم في الدراسة سوف تضيعونها؟ قالوا: إخواننا وأخواتنا والكثير منا لم تنفعهم الدراسة، وأكثرهم في مواكب "الفرة". قلت: وماذا عن البنات؟ قالوا: أغلبهن على الإنترنت والجوالات وفي الأسواق. قلت لهم طيب لماذا لا تقضون وقتكم في الألعاب الرياضية؟ قالوا: يا حسرة.. أنت من أي مدينة؟ قلت: من أبها، قالوا: هل فيها ناد أو مكان لأي نشاط رياضي؟ قلت: أعرف نادي أبها، قالوا: لا يدخله إلا أعضاء النادي، وحتى الملاعب التي تنتشر في القرى والمزارع لا تستطيع أن تستخدمها بدون "علي بن حسكول"، قالوا: "أنت لو فكرت قليلا ألا ترى أنه ينقصنا الكثير؟ ونحن هنا ما عندنا نواد أومحلات للشباب، ولا أنشطة، ورعاية الشباب لكرة القدم، وليس فيها لا رعاية وليست معنية بالشباب، خاصة أن الأهل أيضا يطلبون منا البحث عن الوظائف في المدن الكبرى، وبعضهم يريدنا أن نبتعث وندرس في الخارج، وكل شيء يرونه في التلفزيون وفي الصحف يتوقعون أنه في أبها، ومن يبحث عن عمل في المدن الكبرى يحتاج لـ"علي بن حسكول"، ليتمكن من السفر ومراجعة الوزارات حيث كل شيء مركز في الوزارات. قلت: بصراحة ما هو الحل؟ قالوا: أهلنا يرددون علينا الماضي، وكيف كانوا يعملون في مزارعهم ومع مواشيهم وحياتهم فيها العمل لا ينقطع، فيشعرون بالسعادة وبالانتماء وبالحب لكل شيء، ولكن اليوم، لا يوجد عندنا لا صناعة ولا تجارة ولا زراعة، ولا تشعر أنه مرحب بك في أي مكان حتى بين أهلك الذين أصبحت عبئا عليهم. كررت: وما هو الحل؟ قالوا: أن تخرج العمالة الأجنبية من البلد، ويعاد النظر في الرواتب، ونتخلص من الخادمات والسائقين الذين خربونا، حتى يعتمد البلد على أبنائه ويعتمد الناس على أنفسهم مثل بلدان العالم المتقدم، وعلى شبابهم ويتم تشغيلهم، وتعويدهم على الجدية ويعطون راوتب تسمح لهم بالعيش الكريم والكرامة. ثم سألتهم: ماذا يشغلكم الآن؟ قال أحدهم ممازحا: النشرة الجوية. قلت كيف؟ قال نتابع كيف تهب الرياح ومتى تسقط الأمطار ثم تحدث عن الفصول الأربعة، وتوقعت أن أبناء القرى ينتظرون المطر ويفكرون في موسم الزراعة، ولكنه أراد أن يضحك أصدقاءه، قرأت ما بين السطور وتهجيت الحروف، ثم ودعتهم وشكرتهم على لطفهم وأدبهم وأريحيتهم. أذكياء تتعدى فطنتهم وفهمهم كثيرا من الخبراء الذين نراهم في الإعلام، ولهذا أقول لمن يعقل من أولياء أمورهم ما قاله الحكيم لأهل الفطنة والكياسة، أشغلوهم قبل أن يشغلوكم. ولمن لم يعرف "علي بن حسكول" حتى الآن: هي باختصار الدراهم.