السياسة لا تملأ قدور الجائعين، وقل إن جلها تنطع ورغاء، وحيث تكون السياسة حديثا لا تحكمه حاجة ملحة وميدانا فوضويا لا تنشعل في مجالاته نخب متخصصة، يصبح التخلف أمرا حتميا ويغدو السقوط في براثن الضياع قدرا لا فكاك من إساره!
وعند تقويم الحالة العامة لوطن ما واستقصاء وتحليل مستويات التنمية البشرية التي يمر بها ومدى تطور قطاعاته الإنتاجية، يتعين علينا إلقاء نظرة موضوعية في أحوال الناس وانشغالاتهم فإذا كان اهتمامهم بمتابعة الشأن السياسي أكثر من عنايتهم بقضايا الصناعة وحقول الإنتاج وعوالم الاختراع وإذا أبصرتهم يتداولون البيانات الحزبية بشراهة وإفراط وحين تجدهم يكرسون أوقاتهم بحثا عن بطل يصفقون له وإذا كانوا لا يلقون للثقافة وزنا ولا يقيمون لقيم النزاهة والمسؤولية شأنا (فأقم عليهم مأتما وعويلا) على رأي شاعر النيل وعندليبها الشجي أحمد شوقي.
أما لماذا تكون السياسة في بلداننا النامية قرين الفوضى فلأن الخبثاء يتيحونها مدخلا لاستلاب الحقيقة وإلهاء الشعوب عن تدبّر أحوالها وتجريد الإنسان من حق المعرفة بمآلات الواقع وإحالته إلى مايكرفون ثرثار يعيش على هامش الحياة وهنا سنرى الإنسان يتحدث في مختلف الحقول ويفتي في كل المجالات ويقضي معظم سنوات عمره دون هدف محدد أو غاية مرسومة.. ذلك أن الاشتغال بالسياسة كوظيفة مشاعة لممارسة الفضول يوفر أفضل فرص الاستئثار بالسلطة وأنجع الوسائل الاحتمائية الكفيلة بإدامة الاستبداد.
وبحكم هذه المشاعية لا يكون ثمة إمكانية للتمايز أو أساس موضوعي يسند عملية التنافس، ويحقق شروط التباري بين برامج الأحزاب ورصد جوانب الاختلاف بين الحكومات المتعاقبة على إدارة وتسيير شؤون المجتمعات ورعاية حاجاتها.
تتحول السياسة هنا إلى فنتازيا عبثية تتغذى على الانقسامات وتنمو كورم خبيث في تفاصيل الصراع المناطقي والطائفي والسلالي والمذهبي فتتشابك مصالح القوى التقليدية وتتصلب مواقف الديناصور الحاكم القادر على اختراع وإطلاق بالونات المشاعية السياسية الموجهة لشغل الناس وشل قدرتهم على التفكير السوي السليم ومع اختلاط الأوراق ببعضها يأخذ اليمين دور اليسار وتبرز الهويات المفتتة وتصبح بوادر الانفجار مرئية ولكن بنفس القواعد القديمة المطبوعة على الغوغائية السياسية الأمر الذي يؤثر على أي بوادر تغيير ممنهج يستوفي مشروعيته من تحديات المستقبل ويخطط لمصلحة جيل قادم، دون حمولات ماضوية تثقل كاهله، وتغيب قواه الحقيقية المتضررة مما كان وصاحبة المصلحة العادلة، في الانتقال من سياسة الدهماء وغلبة القطيع إلى حياة وثيقة الصلة بمتطلبات العصر، أو بالأحرى حياة معقولة تستجيب لمعطى التطور وتحترم عقل الإنسان وإرادته وتستوعب وتنمي ملكاته المهدرة وتحميه من الاستغفال وذرائع المشاعية السياسية.
ولئن كانت متاحات الرؤية الأولية في الاعتمالات الداخلية لبلدان الربيع العربي تعطي قدرا من بصيص الأمل بما نسميه المستقبل، إلا أنها في جوانب أخرى من مرئياتها لم تقدم بعد نموذجا يؤكد انطلاقها من مضامين مستقبلية واضحة الأهداف عميقة الاتصال والتواصل مع قيم المشاركة، وتكافؤ الفرص وتعظيم مقومات الدولة الوطنية دولة الحق والعدل والمساواة وسيادة القانون.
لقد أثبتت هذه الثورات قدرتها على حشد قطاعات شعبية واسعة يحركها ريموت الصراع الماضوي، وهي لا شك تمكنت من إزاحة خصومها المستبدين، لكنها لم تقترب من الأحرار الا بمقدار قابلية البعض منهم للعب دور الكومبارس على خشبة مسرحها الحزبي، الذي يوظف نمطا من أنماط المشاعات السياسية التي تستقوي بالقطيع الكاسح في مواجهة الفكرة الجامحة، وعلى حساب الرؤية المستقبلية.
وفي تصوري أن طريق التغيير في بلداننا ما برح وعرا، والوصول إلى مضامينه العصرية ما يزال شاقا ما يتطلب عملا معرفيا منظما يحرر المجتمع من ثقافة القطيع، ويحول دون تطويع الثورات ومحاولات ترويضها للانخراط ضمن أدوات الصراع التقليدي على السلطة لذاتها.
والواقع أن بعض هذه الثورات لم يعد الحامل الاجتماعي لقضايا العصر وتحديات المستقبل قدر كونها ترانيم صاخبة في مشاعات السياسة التي انتهجها الاستبداد المخلوع وعهد أمانة الوفاء بالتزاماتها إلى الاستبداد الصديق.
كان المؤمل من هذا البعض تقديم الأسوة الحسنة من حيث تكافؤ الفرص واحترام معايير الكفاءة، وإعلاء شأن الوظيفة العامة وعدم التهاون تجاه هيبة الدولة لكن الذي حدث وخاصة في اليمن لم يكن وللأسف الشديد غير رجع صدى من تداعيات الماضي وهو يتلبس قميص التغيير ويذهب إلى أبعد مدى من الاستخفاف بتضحيات الشعب ليحل مكانها مشاع مرتبك من سباقات الصراع على اقتسام المواقع القيادية في الدولة بدءا بالحقائب الوزارية، ووصولا نحو أصغر وظيفة ربما حلم بها ثائر خارج مارثون الأحزاب التقليدية..
وفي اعتقادنا أنه لولا وجود الرئيس عبد ربه منصور هادي على رأس الدولة ما توقف نهم هذه القوى ولرأيناها تهرع نحو الخزينة العامة لتقاسم الفلسات الفضية المتبقية في الردهات المعتمة.
فعن أي تغيير يمكن الحديث إذا كان هذا حال البلد الأكثر حاجة للتغيير، والأشد افتقارا إلى ثورة تحيي موات الضمائر التي عراها الربيع، ولم تسترها أوراق التين المتساقطة على ضفافه.