عن عمرٍ جاوز الثمانين عاماً، توفي قبل أشهر/ "فلاح بن خليوي بن علوش السحيمي"، أبو "تريحيب" ـ وينطقونها "تراحيب" ـ شاعرٌ بدوي عرف ـ رحمه الله ـ بالعفة في كل شيء، حتى في مجرد النظر بالعين الوحيدة التي تركها له الجدري، ومع هذا لم تكن تخطئ الجمال فقال ذات مرة:

"الزين والله في بنات المدينة * لاجَنْ من شارع قبا نازلاتِ"!

وبناءً عليه ما زال "الأخ/ أنا" يراهن بحلق حواجبه من يأتي بأجمل من بنات المدينة ياهووه! أولئك الساحرات الناعسات الفاتنات، يتألق في جيناتهن أحلى ما تميز به كل عرقٍ في الدنيا، من أقصى المحطة النووية المنكوبة في اليابان إلى كوخ الجليد الدافئ في "الأسكيمو"، مرورا بالتوابل الهندية، والفستق الفارسي، والطماطم التركية، والحمضيات الشامية، والمانجا المصرية، والإيقاعات الأفريقية، وجبروت الدم الأوروبي الآري؛ و"في البداوة حسنٌ غير مجلوبِ"!!

اعتزل "أبو تريحيب" الشعر بشكليه الغنائي والمحاورة مبكراً ورعاً وتقوى، فلم يعد يقوله إلا إذا لم يجد هواءً في الهواء، و"لا ماء في الماء"، بل عفّ حتى عن رواية ما ذاع من شوارده بين الناس، لكن هناك قصيدةً واحدةً لم يكن يتحرج من روايتها، بل يشعر بالفخر بها وإن لم يصرح بذلك، رغم أنه لم يبق منها إلا بضعة أبيات ومطلعها:

"واوجودي على وضحا وجود* وجد ذيبٍ عدا واخطا عشاه"!

ويعود ذلك إلى مناسبتها التي تروى بالتواتر في المنطقة كلها، وقد أشرت إليها في مقالة منذ مووووووبطي بعنوان: "والأعراب أشد عمراناً"، وصدقوا أو لا تصدقوا: لم يتجاوز "أبو تريحيب" السابعة عشرة من عمره، حين بدأ يقرض الشعر وينقر "الربابة" خفيةً، وكان يجلس تحت شجرة قرب مورد الماء، مع بعض الفتيان من عدة قبائل من ورثة "بني عذرة"، يغازلون ويعابثون "أخدانهم" ـ زميلاتهم في المرعى والخدن الصديق من الجنسين كما في القرآن ـ حين فاجأتهم امرأة تحمل طاسةً بها "قرص" مفروك بالسمن تسأل: من هو فيكم "الغليِّم" الشاعر؟ فوثب أحدهم وخطف الطاسة وتبعه البقية ما عدا الفتى الشاعر الذي وجد نفسه يهتز بـ: "تكفى يا وليدي.. بنتي "وضحا" ردية حظ.. مطلقة مرتين.. "عانها" بتمر قدامك.. تكفى قل بها بيتين وأبشر بسعدك إن قام حظها وتزوجت"!

ولم تمر ساعات السمر إلا و"وضحا" فتاة أحلام أكفأ الشباب، ولم يمر أسبوع إلا والأم تجر كبشاً أملح أقرن هديةً للشاعر وتدعوه لحضور عرسها الليلة!

بعد هذا المشهد بخمسين عاماً، وفي عيد الفطر 1415هـ، زرت "أبا تريحيب"، فهو زوج أختي الكبرى "صالحة"، ووجدت عنده رجلاً ليس من الجماعة، ثم فوجئت بامرأة تودعه وتكرر تحايا العيد والنهار السعيد! لم تكن إلا "وضحا"، ولم يكن الرجل إلا أكبر أبنائها الثمانية! جاءت وفاءً لشاعر كان سبباً في زواجها الموفق!!