يعيش بيننا مواطنون سعوديون قلباً وقالباً وفكراً وولادة ونشأة وتعليماً -بل وأماً في بعض الأحيان- ولكنهم بدون أوراق تثبت هذه الحقيقة، هم السعوديون الذين يتكلمون العربية بلهجة محلية ويدينون بديانة الإسلام، هن زميلاتنا اللاتي درسنا معهن في مدارسنا الحكومية ولم نعرف أنهن مختلفات عنا إلا حين كانت وكيلة المدرسة تطلب من "الأجنبيات" الوقوف لإحصائهن، فيقفن ووجوههن تعلوها حمرة الخجل.. الخجل من عدم القدرة على الانتماء رسمياً لهذا الوطن.

نشرت مقالاً في جريدة الوطن قبل ثمان سنوات بعنوان: "سعوديون بلا أوراق"، ولا أظن أن الكثير قد تغير منذ ذلك الوقت للأسف، فكما تقول (ف.ن) بالكثير من المرارة: "خمسون عاماً ولا زلنا أجانب" وتذكر كيف هاجر والدها من اليمن إلى السعودية وهو ابن الثالثة عشرة في عهد الملك سعود، وفي هذا البلد الجديد شب وتزوج وأنجب وانقطعت كل صلة له ببلده القديم. وتضيف: "ليست المشكلة في منحنا الجنسية.. المشكلة في كونكِ كبرت وتجذر في نفسك انتماؤك لبلد لا تعرفين سواه ولكنه في الواقع يرى فيك مجرّد "وافدة" وإن طال أمدك فيه.. لا يوجد قانون يحميك من الخروج منه في أي لحظة رغب فيها "الكفيل" بإنهاء علاقتك به حتى وبدون أسباب".

وهذا الإحساس العارم بالمرارة والغبن هو ما يميز أبناء الجيلين الثاني من الثالث من السعوديين مع وقف التنفيذ، إذ ليس لديهم شك بأنهم أبناء هذه البلاد التي ولدوا فيها وأنهم يستحقون الجنسية بكل جدارة، وبالتالي فهم يشعرون بأنه حقٌ مسلوبٌ منهم.

عبد المحسن شاب سعودي الولادة والنشأة رغم جواز سفره التايواني (وهو بالمناسبة لا علاقة له نسباً ولا عرقاً بجمهورية الصين الوطنية!) يقول متندراً بأنه "سعودي نمرة بدون استمارة"، وهو يعاني من ذلك حالياً في موضوع زواجه، فهو سعودي الولادة والنشأة والتقاليد، ولا تناسبه إلا فتاة سعودية تربت على تقاليد هذا البلد وعاداته، ولكن كلما تقدم إلى عائلة سعودية من المعارف رُفض لهذا السبب بالرغم من تعليمه الممتاز ووظيفته الجيدة. وجميع أفراد الأسرة الممتدة سعوديون بما فيهم إخوته، باستثنائه هو وأمه وأبيه بالرغم من كونهما من مواليد المملكة أيضاً، يقول عبدالمحسن: "فكرت في الهجرة إلى كندا كثيراً، ولكني أتردد، فقد عشت في وطني غريباً فكيف سأعيش غريباً في بلد غريب؟"

والآية لدى (هـ.س) معكوسة، فهو سعودي ولكنه يحمل هم والده الذي كان يعالج الفقراء بالمجان في عيادته قبل أن يتقاعد ويُطلب منه الرحيل إلى "كابول!" (والتي أيضاً لا ينتمي إليها نسباً ولا عرقاً) ثم شفعت له جنسية ابنه فنجا من الترحيل كونه باقياً بمسمى "مرافق" لابنه وزوجته السعودية كذلك. فقدر المرأة السعودية أن تعاني دوماً من مشكلة تجنيس زوجها وأولادها أو حتى منحهم الإقامة الدائمة، رغم أنها لن تقترن إلا بمسلم، بل وقد يكون عربياً أيضاً ومن مواليد هذه البلاد، في حين يستطيع شقيقها الزواج بمسلمة "صورياً" ولا تعرف لساننا ولا بلدنا ويمنحها كما أولاده منها الجنسية بكل يسر وسهولة.. فرق آخر بين أن تكون مواطناً أو مواطنة في بلادنا.

ولم تشفع شهادتان عُلييان في هندسة الطيران من أميركا ليحصل عبدالهادي على الجنسية السعودية، وهو يحمل شهادة ميلاد سعودية وأهله قدموا للمملكة قبل ستة عقود، ويتحدث عن أزمة الانتماء وصعوبة الرحيل: "بعد تخرجي من أميركا عُرضت علي وظيفة مغرية للعمل مع شركة متخصصة في صناعة الطيران ولكنني فضلت العودة للعيش في السعودية التي أعتبرها وطني وتعتبرني عمالة أجنبية". وأمران يؤلمان المهندس تحديداً حينما يتعلق الأمر بالجنسية: "عندما يطلب مني فحص إيدز عند كل عملية تجديد إقامة، وعندما يأتي أبنائي من المدرسة يبكون لأن بعض الطلاب يعيرونهم بأنهم أجانب".

القصص المذكورة هي غيض من فيض من القصص المؤسفة التي بحوزتي والتي اضطررت لاختيار أربعة منها لضيق المساحة، وهي توضح شيئاً من تعقيدات وعجائب موضوع التجنيس لدينا. فنحن لا نتكلم عن أشخاص وصلوا بالأمس ويرغبون بالاستقرار هنا، وهو ليس عيباً بالمناسبة ويحصل في كل أنحاء العالم المتحضر، وإنما عن أشخاص وجود بعض عائلاتهم هنا منذ عقود طويلة تقريبا، فلا نتحدث عن خمس أو عشر سنوات من الإقامة تؤهلان المرء للحصول على جنسية أوروبية أو أميركية أو كندية، وإنما عن عقود من الزمن تغيرت فيه خرائط العالم، واختفت بعض بلدانهم من قائمة الدول المستقلة.

هؤلاء الأشخاص يعيشون بيننا، وربما كان من بينهم بعض أهلنا أو أرحامنا، وهم لن يتركوا هذا الوطن لأنه وطنهم، بالرغم مما في الأوراق الثبوتية، وهم يتزوجون وينجبون، وبالتالي فهذه المشكلة والمعاناة ستستمر لأجيال قادمة ما لم نحاول حلها بشكل جذري وفعال وفوري. فلا يجب أن يعامل هذا السعودي في كل شيء إلا في جواز سفره كما يعامل الوافد الذي وصل بالأمس فيما يتعلق بالإقامة والفحوصات الطبية. والأمر نفسه فيما يتعلق بقوانين الترحيل.. هذا البعبع المرعب لا يجب أن يستخدم ضد من دخل البلاد بإقامة نظامية منذ عشرات السنين كما يستخدم ضد خادمة هاربة من كفيلها أو معتمر تخلف بعد حج العام الماضي.

لا جدال بأن كل دولة ذات سيادة من حقها أن تضع ما تشاء من شروط وقوانين متعلقة بالجنسية، وفي بلد له خصوصيته الدينية مثل السعودية فمن الطبيعي أن تكون هناك اشتراطات مثل الإسلام واللغة العربية، ومن حق الدولة أيضاً تحديد سنوات أعلى للإقامة للحصول على الجنسية بسبب العدد الكبير لغير المواطنين فيها إذ يشكلون حالياً أكثر من ربع السكان. فقد لا يستحق الجميع الجنسية السعودية بالفعل، ولمعرفة ذلك لا بد من التعامل مع كل حالة بشكل منفرد، فهناك خيارات مثل الإقامات الدائمة والإعفاءات من بعض القوانين واشتراطات الإقامة الحالية وأخيراً الجنسية، فالمهم أن يكون هناك نظام عادل وواضح وممكن التطبيق يفيد الناس ويشل قدرات بعض النصابين والمتلاعبين بقضية الجنسية لأغراض مادية دنيئة، ويكفل للجميع حياة آمنة وعادلة ولائقة في وطنهم الفعلي.