كان المشرق العربي يمثل لدول أوروبا لغزا محيرا ونسقا من العوالم المجهولة ولطالما رغبت أوروبا في معرفة كنه وثقافة ذلك الشرق المحير في غموضه وتنائيه. كان أول التقاء ومقاربة ثقافية بين المشرق والمغرب إبان الحروب الصليبية إلا أن الصدام الحضاري بين هذين العالمين والذي تمثل في الأيدلوجيات الدينية لم يساعد في تزويد أوروبا بصورة متكاملة عن الثقافة العربية بمجمل مكوناتها من عادات وتقاليد وآداب وفنون ولغة، وإنما انحصرت الصورة في النمط الظاهري للممارسة الدينية العربية والمتمثل في إقامة الصلاة في أوقات محددة من اليوم في دور العبادة.
ولقد لعبت الشائعات التي رددها رجال الدين المسيحيون من أجل تحفيز العوالم الأوروبية للمشاركة في المجهود الحربي دورا في نقل صورة مغلوطة عن العربي المسلم والذي صوره الرهبان على أنه قاطع طريق وقاتل للحجاج المسيحيين القادمين إلى بيت المقدس. وعلى الرغم من أن الصراع الذي نشأ بين القائد العربي صلاح الدين الأيوبي وملك إنجلترا آنذاك ريتشارد قلب الأسد – وما تمخض عن ذلك من استعادة بيت المقدس ثم توقيع صلح الرملة - قد أعطى صورة جلية عن المقاتل العربي الذي يمتلك نبل وأخلاق الفرسان إلا أن تلك الصورة قد رسخت في العقلية الأوروبية مختزلة في شخص صلاح الدين كنموذج قائم بذاته. ئوبقي التاريخ العربي والإسلامي وتاريخ الخلافة وأخبار الخلفاء مغيبة عن الذهنية الأوروبية ولا يصل إليها من ذلك إلا النزر اليسير.
ومع قدوم العصور الوسطى وظهور أول بوادر النهضة الأوروبية اتجهت أعين الغرب إلى المشرق العربي من جديد فظهر على السطح مجموعة من الرحالة الذين قدموا إلى الشرق وتعلموا اللغة العربية وأجادوها إلى درجة الإتقان، ثم جربوا أن يقوموا بترجمة جملة من مصادر التراث العربي للغات الأوروبية بغية إعطاء الغرب تصورا واضحا عن الثقافة العربية والتاريخ العربي في مجمله.
ويشاء القدر أن يفد إلى عالمنا العربي وبالتحديد مصر أحد المستشرقين الأوروبيين الذي بدا حينذاك شابا متحمسا للشرق الواعد بسحره وغموضه وخباياه. كان هذا الشاب هو المستشرق الإنجليزي إدوارد لين، قام بإنجاز عمل يحسب للحضارة الإنسانية وهو تأليف معجم "عربي إنجليزي" فساهم في تلاقح وتلاقي حضارتين عظيمتين في مكونهما اللغوي. إلا أن الطامة في نظري عندما جرب أن يقوم بترجمة كتاب من مكنونات التراث العربي كي يتمكن من خلاله من تزويد أوروبا بصورة جلية عن واقع الثقافة العربية عبر قرون بمكوناتها الرئيسية (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) ؛ كي تتمكن أوروبا من فهم الشخصية العربية وتاريخها الثقافي بصورة متناهية في الدقة والصدق، فكان أن وقع اختياره على كتاب (ألف ليلة وليلة) ليقوم بترجمته تحت مسمى الليالي العربية Arabian Nights لتعلق بالذهنية الأوروبية تلك الصورة المشوهة عن العربي الذي يمتلك المال والقصور والجواري، بل إن رموزا إسلامية قد طالها ذلك الغبن فهارون الرشيد الذي كان يحج عاما ويغزو عاما بقيت صورته المغلوطة التي رسمها كتاب ألف ليلة وليلة عالقة في الذهنية الأوروبية إلى وقتنا الراهن.
وعلى الرغم من أن العديد من الكتب قد ألفت أو ترجمت لاحقا لمستشرقين قد ساهمت في توصيف الواقع العربي بدقة وإعطاء صور صحيحة للخلافة الإسلامية وعلى رأسها الخليفة العباسي هارون الرشيد إلا أن هذه المؤلفات بقيت حبيسة رفوف المكتبات الأوروبية الشهيرة وظل (ألف ليلة وليلة) بحكايا الجن ومغامرات السندباد وأخبار الرشيد مع أبي نواس هو سيد المشهد، ويشكل سحرا لا يقاوم لدى المواطن الغربي وحتى لدى المثقف الأوروبي، وهكذا تعززت صورة العربي المشوهة في الذهنية الأوروبية يوما بعد يوم.
في نظري أنه رغم مرور عقود على ذلك ورغم ما أحدثته الثورة التكنولوجية من سهولة تنقل والتقاء الثقافتين العربية والأوروبية حديثا، سواء من خلال الدراسة أو التجارة والعمل أو خلاف ذلك، فستظل الصورة السلبية السابقة للشخصية العربية عالقة في العقل الأوروبي وتحتاج للمزيد من السنين والتقارب والتفاعل الثنائي بين الثقافتين، وخاصة على مستوى الأفراد حتى تُمحى الصورة السلبية والنمطية للشخصية العربية التي رسمها كتاب (ألف ليلة وليلة) لدى الآخر، وتحل عوضا عنها صورة المواطن العربي الزاهية والجميلة بمكونه وموروثه الثقافي الصحيح، وحقيق بنا أن نقول إن ما تحدثه الكتب من تأثير في البنى الفكرية يفوق بكثير ما تحدثه الجيوش من تدمير على أرض الواقع.