مساء الثالث عشر من يناير 1888م اكتمل عقد ثلاثة وثلاثين شخصاً من مكتشفٍ وعالم طبيعة ومصرفي وضابط وجغرافي وغيرهم في نادي الخاص "كوزموس"، بواشنطن العاصمة، وذلك لتنسيق جهود تأسيس "جمعيةٍ لزيادة ونشر المعارف الجغرافية"، وخلال أربعة عشر يوما فقط؛ تأسست "الجمعية الجغرافية الوطنية" الأمريكية، وأصبح "جاردينر غرين هوبارد" أول رئيس لها، ثم خلفه صهره مخترع الهاتف الشهير: "ألكسندر غراهام بيل" عقب وفاته، الذي كرّس طاقته وإبداعاته الفكرية للنهوض بالجمعية، وخصوصاً مجلتها الرسمية: ناشيونال جيوغرافيك National Geographic، حيث عين شاباً مبادراً في الثالثة والعشرين من عمره، اسمه "جيلبرت اتش. جروسفينور"، لبعث الحياة في المجلة وتشجيع الجمهور على شرائها، فحوّلها من مجرد دورية تقدم حقائق جغرافية جافة إلى مجلة مفعمة بالحيوية والعلوم وحقائق العالم، فضلاً عن تحوّلها مع مرور الزمن إلى إيقونة للصحافة الأميركية، وبالتالي حجزت لنفسها موقعاً ريادياً في عالم النشر العلمي.
وعلى الرغم من فشل كثيرٍ من المجلات العلمية في جذب الجمهور العادي، إلا أن مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" واستثمارها في التقنيات المتقدمة للإخراج الفني واستخدامها المبكر للصور الملونة؛ أهلها لتتربع على عرش الصحافة المصورة بكل جدارة، وفي هذا المجال كانت أول مجلة تعرض صوراً ليلية للحيوانات، وأول من نشر صوراً ملتقطة تحت الماء، كما ازداد زحف الصور الملونة على صفحاتها حتى صدر عدد فبراير 1926م ملوناً بالكامل!، ولقد اعتمدت المجلة في نجاحها على اهتمام الجمعية الجغرافية الوطنية في اكتشاف وفهم التقنيات الجديدة وطبيعة الأماكن النائية، إلى جانب دورها في إعداد التقارير المصورة بشكل مثير، وحظيت المجلة بشرف نشر تقارير صحفية مبكرة لمواضيع شائكة؛ مثل التلوث الكيميائي، والتوأم، والطاقة النووية، والاتجار غير الشرعي في الحيوانات البرية، وتطور الإنسان ونشوئه. وتشير التقديرات إلى أن الجمعية منذ نشأتها قد عملت على تمويل أكثر من تسعة آلاف رحلة استكشافية ومشروع بحث! مما جعل المجلة تقف على مستودعٍ ضخمٍ ومتنوع من المعرفة الإنسانية، وهكذا حققت المجلة نجاحاً مدوياً في نسختها الأصلية باللغة الإنجليزية، وأضحت مثالاً للمهنية Professionalism والاعتماد على المواد الأصلية Original Material، المعدة خصيصاً للمجلة وحدها، والتي يكون أساسها منحاً علمية للجمعية، حيث يقوم العلماء والباحثون خلال عملهم وبحثهم الدقيق بتوثيق القصة ورفدها بصور معبرة لا يمكن تجاوزها.
بعد ذلك خاضت الجمعية الجغرافية الوطنية غمار إنتاج نسخ عالمية من المجلة بلغات بلدان مختلفة، وكانت البداية باللغة اليابانية، ومع توالي النجاحات، ناهز عدد الطبعات العالمية الثلاثين، كلها يزدان غلافها بالإطار الذهبي الذي تلازم مع المجلة منذ صدورها، وفي المنطقة العربية كان لمؤسسة أبوظبي للإعلام قصب السبق في إصدار النسخة العربية في أكتوبر 2010م.
هنا في المملكة لم تستطع "الجمعية الجغرافية السعودية" تجاوز أسوارها الأكاديمية، واقتصر جهدها على إصدار المجلة العربية لنظم المعلومات الجغرافية، وسلسلة دراسات جغرافية، وعقد بضع دورات فنية تخصصية، دون الخروج إلى المجتمع والجمهور المتعطش للمعلومة، وتطوير النشاط الجغرافي الثقافي في المملكة، والعمل على تبسيط ونشر المعلومات الجغرافية السعودية، أو على الأقل إحياء جائزة الإدريسي للتميز الجغرافي بعد حجبها العام الماضي، أما الجهة الحكومية ذات العلاقة الأكبر بهم الثقافة الجغرافية فهي: "هيئة المساحة الجيولوجية السعودية" بجدة، وهي الهيئة المختصة بالعلوم الجيولوجية والبيئية، فلم تستطع -هي الأخرى- تجاوز عملها الرسمي، ولم تقترب من الجمهور المحلي، وخاصة كونها تتربع على رصيدٍ هائل من المعلومات والخبرات، ولعله ليس من قبيل المصادفة ألا يعرف أحدٌ عن الجهد العظيم في الكتاب الجغرافي الذي صدر مؤخراً عن الهيئة: "المملكة العربية السعودية..حقائق وأرقام"، والذي يحوي معلومات وإحصائيات حديثة ودقيقة، ورغم أن الكتاب متوفر بصيغة إلكترونية على موقع الهيئة، إلا أن من الضروري طباعة هذا الجهد الرائع وتوزيعه على المكتبات العامة والمدارس، وكذلك تسويقه بشكل إلكتروني يضمن وصوله لأكبر شريحة من القراء، دون إغفال نشر وتسهيل وصول الباحثين للدراسات العلمية التي تقوم بها "هيئة المساحة" أو تمولها، مثل: مشروع قياس الرادون RADON المشع في مدينة تبوك، والخرائط الجيولوجية الهندسية لمدن المملكة، ودراسات مصادر المياه، وغيرها من الدراسات والبحوث التي تستحق أن تنشر ملخصاتها بشكل مبسط على شكل مجلة دورية.
بلادنا مترامية الأطرف، وفيها مساحات واسعة وبكرٌ للمعرفة الجغرافية، وعادات وتقاليد متنوعة تحتاج إلى التوثيق والنقل بصورة علمية مبتكرة، كما أن منجزنا العلمي والثقافي يزدهر ويتطور دون وجود وعاءٍ يحفظه ويقربه إلى المجتمع والجمهور بشكل جذاب، كما تفعل مجلة "ناشونال جغرافيك" بثقافة وحضارة العالم، فهل يتحول حلم يقظتي هذا من مجرد حلمٍ عابر إلى "مجلة جغرافية سعودية".. إلى حقيقة أتلمس ورقها المصقول، وأسعد بمطالعة موقعها الإلكتروني كل صباح..هذا ما أتمناه اليوم قبل غد.