سأبتدر الجميع وأقول إن الأبوة هنا مجازية، وأيضاً حقيقية، فالملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود هو بالمعنى المجازي أبو الشعب السعودي، تبعاً لنسبة الناس إليه، ونسبة لكونه بطل هذه الوحدة التي انصهر في بوتقتها جمع من القبائل المتناحرة (سابقاً)، وتوحدت بسببها العديد من الأقاليم والمقاطعات التي كان كثير منها دولاً تاريخية خلال أحقاب سابقة، لكن ضعف العرب وسطوة الاستعمار جعلت كثيرا من البلاد العربية، تجثم تحت الهيمنة الاستعمارية الغربية أو الخلافة العثمانية.

ومع عزم الملك عبدالعزيز وحزمه فقد استعاد الرياض وفتحها، ثم ما تلاها من تمدد سيطرته على الأجزاء المجاورة شيئاً فشيئاً، ثم توحيدها جزءاً فجزءاً حتى اكتملت هذه الأطراف، وهذه الأقاليم تحت ما يعرف الآن، ومنذ أكثر من ثمانية عقود باسم المملكة العربية السعودية التي وطنت القبائل المتناحرة في هجر صغيرة، أتاحت لأهلها الذين كانوا أقواماً رُحّلا أسباب التعليم والعلاج، ووفرت لهم المعيشة عوضاً عن الغارات المفاجئة أو الترحل إلى مواطن الكلأ والمرعى في ملاحقة موسمية للسحاب في صحراء موحلة قاحلة.

كان توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز النواة التي انطلقت منها وبسببها حركات التحرر العربية من الاستعمار، فيما غرقت كثير من الدول العربية في زحمة تصدير ثوراتها ودغدغة مشاعر مواطنيها، بالشعارات البراقة الجوفاء. وفيما كانت الحكومات العربية العسكرية تنقلب على نفسها، وتغير زعاماتها؛ كانت هذه البلاد تزداد رسوخاً وشموخاً وترتفع قيمتها عاماً بعد الآخر حتى صارت دولة لها وزنها المعتبر، والمقدر في المحافل الدولية، بحسبان وزنها الاقتصادي وتأثير ثروتها النفطية التي تدار برشد وعقلانية، وكذلك الحال مع وزنها الديني في العالم الإسلامي، نظراً لوجود الحرمين الشريفين في أرضها، وما تقدمه من تسهيلات وخدمات ميسرة للزوار والمعتمرين والحجاج.

يضاف إلى تلك المكتسبات، قيمة المملكة السياسية وتأثيرها الواضح في دهاليز القرار السياسي الإقليمي والعالمي، وذلك أيضاً نسبة لما تتسم به سياستها من حنكة وعقلانية لا تسيرها العاطفة، ولا تجرفها الشعارات، ولا يقودها حس الشارع والغوغاء.

وإذا كانت الدولة والناس مدينين باستقرارهم وتحولاتهم التنموية المتتابعة لكل ملوك المملكة من أبناء الملك عبدالعزيز يرحمه الله ابتداء من الملك سعود، مرورا بالملك فيصل، ثم الملك خالد فالملك فهد يرحمهم الله، ثم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله يحفظه الله فإن جميع المواطنين بمن فيهم أبناؤه الذين ملكوا أو من تولوا المناصب مدينون للمؤسس، والموحد الملك عبدالعزيز الذي أنشأ بلداً من عدم، ووحدة غير مسبوقة ودولة عصرية فريدة. فهل بعد كل هذا الإنجاز المعجز والإبهار المنجز بررنا ووفينا بحق مؤسس هذه الدولة؟!

ماذا قدمنا للملك عبدالعزيز رحمه الله، نظير ما قدم لنا من وحدة بعد شتات وأمن بعد خوف واستقرار بعد ترحل وهجرة.

الواقع يقول إننا كأبناء للملك عبدالعزيز نعتبر عاقين في حقه بحساب ميزان الأرباح والخسائر الذي يوضح أننا مقصرون في جعله أنموذجاً وقدوة لكل الشعب العربي.

دونكم الأنظمة العسكرية العربية التي عمدت إلى تمجيد زعمائها حتى صار رجلاً بحجم جمال عبدالناصر أنموذجاً وقدوة وقائداً يحتذى، في كل العالم العربي، وصار يكنى بأبي الوحدة العربية، وهو أبعد ما يكون عنها، وصار بعض الجهلة من الملعوب عليهم إعلامياً يتباكون في حال الضعف والهوان والفرقة العربية وهم يجأرون أين أنت ياعبد الناصر؟! وكان الأولى أن يقال أين أنت يا عبدالعزيز فهو أبو الوحدة العربية الحقيقي، ورائدها لكننا تسببنا في عدم تعريف العالم العربي به فيما حرص العسكر على تصنيم رموزهم وجعلهم نجوماً لامعة.

ومع عدم إغفالنا للدور المميز لدارة الملك عبدالعزيز في توثيق تاريخ هذه البلاد، لكنه رغم أهميته يبقى عملاً نخبوياً، لا يصل للقاعدة الشعبية، إنك لو سألت شاباً يافعاً في بسكرة الجزائرية أو تطوان المغربية أو إب اليمنية أو إدلب السورية أو الزرقاء الأردنية ليحدثك بما يعرفه عن جمال عبدالناصر أو الملك عبدالعزيز لحدثك بإسهاب عن الأول ولظهر جهله، وعدم معرفته بالملك عبدالعزيز، وما هذا إلا نتاج العقوق الذي مارسناه بحق هذا القائد التاريخي. لقد كان لزاماً علينا في هذه البلاد إنتاج الأفلام السينمائية الضخمة عن سيرة وبطولات، وأعمال هذا الملك (كان للمخرج العالمي المغدور مصطفى العقاد مشروع بهذا الخصوص لكنه أجهض)، وكان من حق رائد الوحدة والنهضة العربية، علينا إقامة المؤتمرات والندوات والمحاضرات المحلية والدولية التي تبرز دوره وتعرّف بجهده وتظهر حجم الإنجازات التي قدمها للأمة العربية، وذلك من خلال تعريف العرب، والعالم بما كانت عليه هذه الجزيرة قبل جمع شتاتها وما وصلت إليه بعد اكتمال تأسيسها.

يخالجني شعور بأننا نستحي هنا من الثناء على أدوارنا، وهذا مفهوم إلى حد ما في بعض الأمور، لكن ضرورة خلق الأنموذج والقدوة للمواطن العربي، وكذلك رفع الثقة في نفس المواطن السعودي في مواجهة إخوانه العرب الذين يمجدون زعماءهم ويجعلونهم نجوماً مثل عبدالناصر أو صدام حسين هو الذي يسوغ ويبرر ضرورة مثل هذا التوجه، بل إن غياب الرموز والنماذج الصالحة عند المواطن العربي، هو الذي عزز عندهم رغبة البحث عن قائد يحتذى وتناط به مسؤولية رد الاعتبار والكرامة العربية المهدرة، وهذا بدوره هو الذي أوجد أرضية شعبية لحشد من غلاة المتطرفين مثل بن لادن وحسن نصر الله وفي زمن مضى قادة فلسطينيين متطرفين من أمثال أبو نضال ووديع حداد.

كان المد السعودي أجدر بالانتشار من المد الناصري، ولو أننا أشعنا عبدالعزيز في الأوساط الشعبية العربية، ونشرنا سيرته المميزة لكانت الفرقة العربية أخف وطأة، ولكان مد الوحدة والانصهار أقوى أثراً. لقد ترك التأثير السعودي أثره الواضح في الجوار عند رجل وحدوي آخر هو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي جمع الجزر العربية المتصالحة في دولة متحضرة ومستقرة هي الإمارات العربية المتحدة، ومع كون الوحدة الإماراتية تابعة، ومع كون الشيخ زايد هو المقتدي بالقدوة الملك عبدالعزيز، إلا أنني أظن أن معرفة الناس والبسطاء وبقية العرب الأقربين والأبعدين بالشيخ زايد أكثر من معرفتهم بالملك عبدالعزيز رغم فارق حجم الوحدة النوعي والكمي والزمني، لكن ربما لأن الوحدة الإماراتية أحدث، مع التأكيد على أن التوظيف الإعلامي المستمر والمدروس لدى الإماراتيين هو ما يجعل للشيخ زايد هذا الحضور البهي.

بقي لي أن أقول إنه قد حان وقت الوفاء لهذا الموحد الكبير، وعلينا نحن أبناءه تعويض ما سلف بما يمكن تداركه من توظيف ثقافي وفني درامي وإعلامي ومنبري، لكل المعلومات المتاحة بدون تهويل أو تمجيد ممجوج فيكفي الاقتصار على ذكر الواقع، ففيه ما يحقق الهدف والمبتغى، وإن من الوفاء بحق هذا الرمز الوفاء بحق الشعوب العربية التي تبحث لها عن رمز وقدوة وأكرم بالموحد المؤسس عبدالعزيز آل سعود من رمز وقدوة.