لقد سبرت الناس ثم خبرتهم وبلوت ما وصفوا من الأخبار

فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً وإذا المودة أقرب الأنساب

يتمتع الكثير من الأشخاص بذكاء مهني عال، يجعلهم يؤدون أعمالهم بكل فن ومهارة، لكنهم مع ذلك يقبعون في مراتب عادية بل ربما في مراتب دونيه! وفي كثير من الأحيان لا يعرف حتى أقرب المقربين منهم شيئا عن إمكانياتهم وقدراتهم العجيبة! بينما ترى آخرين أقل ذكاءً في تأدية أعمالهم، وقدراتهم ربما تكون متوسطة، يحظون بحب وتقدير معظم المحيطين بهم، وهو ما قد يدفع من له الأمر في ترشيحهم لمراتب الفضل والتقدير، وقد ينالون من الثناء العطايا ما يجعلهم في المقدمة دوماً.. كل ذلك يحدث، لا لأن الشفاعة الحسنة أو (السيئة) والتملق هي اللغة السائدة في إدارة المنظمة؛ بل لأن الإنسان اللبق البشوش يكون دائم الحضور في العقول والأذهان، حتى ولو كانت قدراته أقل بكثير من غيره. وهو ما يمكن أن نسميه تجاوزاً بـ"الذكاء الاجتماعي".

وهو في نظر الكثير قد يفوق الذكاء المهني البحت، لأن هذا الأخير قد يغوص في مجال واحد بتعمق وتبحر دون أن ينظر للأطراف المحيطة المترامية، والأول "صاحب الذكاء الاجتماعي" يعمل على إتقان عمله دون إهمال ركاب المركب! لا أنكر هنا حاجتنا الماسة إلى محترفين مهرة، لكن قد ننساهم في زحمة الحياة.. وكيف لنا أن نعرفهم وهم غارقون في مهام عملهم دون أن نعلم ماذا يعملون! بل قد لا نستطيع التعرف على إمكانياتهم ومهاراتهم ما داموا منكفئين على أنفسهم.

إن الأعمال العظيمة، والمهن المحترمة والمواهب والقدرات الفذة؛ تحتاج إلى أن تتواصل مع المجتمع وأن تعرض إبداعها وإنتاجها تحت ضوء الشمس ليُعرف الخبيث من الطيب، وليعم النفع.. والبشر بطبعهم اجتماعيون ينساقون وراء عواطفهم ويحبون من يتواصل معهم ويهتم بهم. وقد قامت كل الدعوات السماوية على حسن التعامل مع الناس حتى ولو واجهت الرفض في بداية الأمر. لأنه من غير المعقول أن تسعى لإقناع الناس بما يدور في خلدك بالشدة والعنف، وليس من الممكن لا عقلاً ولا عُرفاً أن تكسب قلوب الناس بالفظاظة والشدة، ولا أدل على وصف هذا المعنى إلا ما قاله الله تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام إذ قال عز من قائل: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك". وفي الحديث الشريف يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير ممن لا يخالطهم ولايصبر على أذاهم". ولكن يجب أن نكون حذرين لأننا مع ذلك نحتاج لصاحب كل موهبة حتى ولو كان منعزلاً، لأن الأمة التي لا تقدر علماءها ومفكريها والعمالة الماهرة فيها أمة فاشلة ومعطلة. نعم من يتمتع بخُلقٍ عظيم يكون محبباً للنفوس والأنظار، ولكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب المصلحة العامة التي تتطلب أن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب.