مقال الأسبوع الماضي (هل يزيد الشعب السعودي أم ينقص؟) تناول موضوع انخفاض معدلات الخصوبة بما يقارب 60? في المملكة منذ منتصف السبعينات الميلادية، وهو ما يتنافى مع الفكرة السائدة حول كون عدد سكان المملكة الذي ينمو باضطراد يشكل التحدي الرئيس لنا في ظل بطالة متزايدة بين الشباب، نسبة الشباب الكبيرة اليوم في السعودية (70?) هي نتاج معدلات خصوبة مرتفعة قبل جيل أو يزيد (7,3) بينما انخفضت معدلات الخصوبة اليوم لتصل اليوم لمتوسط (2,8 طفل للمرأة الواحدة)، وبعيدا عن انعكاسات هذا الأمر مستقبلا وما يطرحه من تحديات مختلفة فإن هذا الانخفاض الكبير يمكن تفسيره بعدة أمور على رأسها الفكرة التي حاول المقال نقلها من كون أحد مسببات هذا الأمر هو مسألة "الشعور بالحاجة".

"الشعور بالحاجة أو الفقر" أمر يختلف جذريا عن "الحاجة أو الفقر" كمفهوم. لكلمة "الفقر" مفعول سلبي وخاصة على المجتمعات، وقد يتفهم المرء حساسية استخدام مثل هذه الكلمة في سياقات متعددة، وهو ما قد يستوجب عملية تشريح أكثر تعمقا. الفقر كمفهوم يظل نسبيا (relative) وليس مطلقا (absolute) فأنت قد تكون أكثر فقرا من شخص ولكن في المقابل أكثر غنى من شخص آخر، ويعتمد التعريف بالتالي على تحديد ثابت آخر يقاس على أساسه الفقر. ولذلك ظهر مفهوم خط الفقر كخط فاصل يقاس على أساسه الفقر، ويختلف تحديد المؤسسات الدولية له بحسب تعريفاتها المتعددة، وإن كانت أغلبها ترى أن كل شخص بمستوى دخل أقل من دولار أو دولارين يوميا يعتبر فقيرا، ولكن تحريك الخط نفسه من دولار إلى دولارين يخرج أو يدخل شريحة كبيرة من المجتمع في دائرة الفقر من عدمها.

الأمم المتحدة تعرف الفقر على أنه فقدان الخيارات والفرص التي تؤثر على الكرامة الإنسانية، بما يعني عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية من المأكل والمشرب والمأوى. هذا الأمر ليس مدار الحديث، وهذا الفقر ليس هو الذي يقع في دائرة الضوء والاهتمام هنا.

"الشعور بالفقر" في المقابل هو حالة ترتبط بمفهوم نسبي آخر وهو حالة الشعور بعدم القدرة على تلبية الاحتياجات مع نسبية مفهوم الاحتياجات نفسه. الاحتياجات هنا لا تتعلق بالاحتياجات الإنسانية الأساسية، والشعور بالفقر هنا ليس لفقر حقيقي وإنما حالة شعورية تولدت بسبب تفاوت حجم التوقعات والحاجات مع الواقع. الاحتياجات هنا قد تختلف وقد لا تتعلق بالفقر كما معروف وكما هو أمر له دلالة سلبية على الإطلاق. الشاب السعودي يرغب اليوم في سيارة تنقله، هذه رغبة لا يشكل غيابها دليلا على وجود (فقر)، ولكنه قد يولد في المقابل (شعورا بالفقر)، وكلما ارتفع حجم التوقعات أو الاحتياجات مقابل الواقع ترتفع معه حالة "الشعور بالفقر".

ابن الطبقة المتوسطة الذي ابتعث للدراسة في الخارج سيرغب على الأغلب أن يدخل ابنه مدرسة ذات تعليم جيد لعلمه بأهمية مردود مثل هذا التعليم عليه مستقبلا، هنا يصبح التعليم الخاص "حاجة" لهذا الشاب قد يولد عدم قدرته على تلبيتها "شعورا بالفقر" مما أصبح له مع الوقت تأثير على معدل الخصوبة مثلا، حيث ترتفع أمام هذا الشاب كلفة الطفل الواحد مثلا مقابل كلفة هذا الطفل لدى الجيل السابق الذي لم يكن مثل هذا الأمر ليشكل له معضلة.

"الشعور بالفقر" وليس "الفقر" هو صلب المشكلة، ويتجلى هذا الأمر عندما يشعر الشاب اليوم أنه أكثر فقرا من والديه وأبعد عن إمكانية تحقيق استمرارية في نفس نمط حياته أو أقل قليلا مما كان في ظلهم. انعكاس هذا الأمر على مستوى الخصوبة هو ذات الأمر في انعكاسه على ارتفاع سن الزواج لدى الشباب اليوم وشعورهم بعدم إمكانية الاكتفاء الذاتي، ليس لوجود فقر حقيقي بقدر ما هو شعور بالفقر نظرا للهوة بين "الاحتياجات" (التي تظل أيضاً نسبية وتختلف من شخص لآخر وشريحة اجتماعية لأخرى) وبين الواقع. نظريا يمكن لابن الطبقة المتوسطة الانتقال لسكن منخفض التكاليف في حي متواضع ولكن واقعيا يتعارض هذا مع توقعاته واحتياجه، مما يولد بالتالي شعورا بالفقر تنتج عنه آثار اجتماعية متعددة وسلبية. ابن الطبقة المتوسطة على سبيل المثال له احتياجاته (وهي نسبية بالضرورة)، عدم القدرة على السفر للخارج في الإجازات مثلا يولد شعورا بالفقر لديه رغم كون هذا الأمر رفاهية في دول أخرى. لا يمكن الحكم على المسألة بمسطرة علمية واحدة ولكن يمكن دراستها كحالة ومحاولة الوصول لأنماط معينة لتحديد دائرة متوسط الاحتياجات والتوقعات التي تدفع بحالة "الشعور بالفقر" اليوم بين شرائح الشباب، وهو أمر يمكن تلمسه مباشرة من خلال الحديث مع الشباب.

معالجة حالة "الشعور بالفقر" لدينا باتت ضرورة تستلزم فهما اجتماعيا واقتصاديا يختلف عن مسألة "الفقر" كحالة اقتصادية في المقام الأول تتعلق بتعريف الفقر كما نفهمه جميعا بصورة عامة، هذا أمر يختلف عن ذاك، وهذا أمر له علاقة بالطبقة المتوسطة بشكل أساس، وهي الطبقة التي تشكل السواد الأعظم والشريحة الأكبر من المجتمع. ذلك أن ازدياد حالة الشعور بالفقر بين فئات من الشباب ستنتج عنها آثار سلبية كالرفض الاجتماعي وفقدان الأمل وغيرها من التأثيرات. ولو كانت معالجة الفقر تتم بمسائل كالضمان الاجتماعي وبرامج مساعدة الفقراء، فإن معالجة الشعور بالفقر تتم بمجالات أخرى تختلف تماما.