لم تستقر أوروبا وتتقدم إلا بعد أن رزقت عقولاً تقدم المصلحة العامة على مصالحها الشخصية! عقولاً تحمل "قضيةً" أكبر من أن تتحكم فيها "أزمة" آنية! عقولاً تعيش المستقبل، وتفنى لتحقيق شيء ضئيلٍ منه، ولا يحبطها الحاضر مهما كان كئيباً، ولا يسكرها الماضي مهما كان جميلاً! فالرمز الفرنسي العظيم/ "شارل ديغول" قاد نضال بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية من لندن، حتى أصبح رئيساً للجمهورية، فلم تعبث بوطنيته نشوة الانتصار والبطولة، كما فعلت بسلفه "نابليون"، أو بجاره الإسباني "فرانكو"! وترك السلطة حين شعر أنه لن يحكم بلده كما يجب، وانزوى في قريته بعيداً؛ حتى أدرك الفرنسيون، بعد اثنتي عشرة سنة، أنه: "لا يحكم فرنسا إلا الفرنسي الأول"! فأعادوه، ومرةً أخرى لم يتردد عن مغادرة السلطة رضوخاً لثورة مايو 1968، مقدماً نموذجاً فريداً لرجل لا هدف له إلا خدمة بلده بأحسن الحالين: ممارسة السلطة، أو التنحي عنها!

أما الشرق فقد "رُزِئَ" بعقولٍ لا تكتفي "بشخصنة" ما حقَّقته بكفاحها، كالزعيم التركي/ "كمال أتاتورك"، بل لا تتورع عن استثمار جهود الغير، كما فعل الزعيم "جمال عبدالناصر"، ويشهد التاريخ أنه من أصدق الزعماء، وأنزههم، وأرهفهم حسَّاً وطنياً! ومع هذا تكاد "تمسخ" ثورة ـ وليست ثورات ـ مصر الحديثة في "شخصه"، وفي سني حكمه السبعة عشر!

لقد بدأت ثورة مصر الحديثة عام 1919، ولم تكن عسكرية بقيادة "أحمد عرابي" فقط، بل كانت شاملة الثقافة، والدين، والاقتصاد، والسياسة، والفن، ولكل مجالٍ رمزه العظيم، ولكن حسبك "سعد زغلول" ممثلاً للحراك المدني الذي تُوِّج بدستور 1936، وختم باستلام "طه حسين" وزارة المعارف؛ لينفذ ما نظَّر له بكتابه "مستقبل الثقافة في مصر"! فلما قامت ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة اللواء/"محمد نجيب"، لم يكن "جمال" مشهوراً، لكنه استطاع تنحية "نجيب" وفرض الإقامة الجبرية عليه، ثم ألغى الدستور المدني، وفرض حكماً عسكرياً ـ وصفه "هو" فيما بعد بـ"النظام المخابراتي" ـ لا يتردد عن سحق من يخالفه، ولا ثقة له إلا بمن يواليه، فيسجن "مصطفى أمين" تسع سنين، ويصبح "محمد حسين هيكل" وزيراً! وكلها "أرزاء" ياباشا!

ولم ينطلق "ناصر" في كل ذلك ـ والتاريخ يشهد ـ من جهلٍ أو أنانية، بل من إيمانه بحبه لمصر، وإخلاصه الذي أكسبه جماهيرية نادرة منحته (99،99%)، لكن سكرة السلطة فوَّتت عليه فرصة تاريخية: فلو واصل مسيرة الثورة المدنية، وأرسى دعائم الديموقراطية الحقيقية، لحصل على الـ(100%) وللأبد، كما يقول "نجيب محفوظ"!

وذلك مالم يفوته "نيلسون مانديلا"؛ رغم أن عقله "شرقي"، ورغم أنه "استنضل" ـ تعلم النضال ـ في "الجزائر" بدعم من "ناصر" ماغيره!