قبل أكثر من أربعين عاماً لم ينتظر الشاعر المدني/ "محمود يوسف شاذلي" حتى يشرب كوب الماء: رمى نفسه في سيارة الأجرة "الأخيرة"، ولم يبل عروقه إلا في المدينة، حيث أسرع فوراً إلى صديقه الملحن البسيط/ "محمد النشار"؛ ليولد الشجن الذي ما زال الأطفال المخلَّدون فينا يرددونه كلما عادت الطيور إلى أعشاشها "أنا عطشان وبقى لي زمان .. نفسي أروح ست البلدان.. أشرب واروى بموية عروة.. أو من موية العين الزرقا"!

كل أبناء هذه "العجوز الدرويشة" يحترقون بهذا الحب، لكنهم لا يتوبون عن الهجرة منها!! يخرجون ليس معهم إلا "شكة" نعناع، وحفنة من "العجوة"، ومثل "أحد" من الصبر والمثابرة، يواجهون بها المجهول؛ ويحققون نجاحاتٍ تثير الحسد في شتى المجالات: فهذا الضابط، والتاجر، واللاعب، والفنان والموسيقي، والمطرب، والممثل، والكاتب، بل ومنهم الوكيل والأمين والمحافظ والوزير! يخرجون بكل ما ربتهم عليه من طيبة ووفاء، ويعودون وقد شوه الزمن ملامحهم وأنفسهم؛ لا يكادون يشبهونها إلا في حمل الأسية! لماذا لا يردون لها شيئاً من الجميل؟ كم كاتب من أبنائها يملأ الدنيا حديثاً عن كل "عروس" في البلد، وينسى أم أحلى العرائس.. ست الستات.. طيبة؟

الله يشهد أن أبناءها ليسوا بهذا العقوق؛ ولكن هي/ أمهم المسكينة، "الأجودية"، لا تطلب منهم شيئاً، ولا تذكرهم بواجبهم نحوها في كل مناسبة! "بس يا واد: أنا وخالتك "مكة" قبل ما نطلب حاجة.. ربنا هو اللي يسخر لنا خيار خلقه من "إبراهيم" عليه السلام، إلى "عبدالله بن عبدالعزيز"، الله يطول عمره"! واااه.. افتكرت "دَحِّين"، ولدي حبيبي/ "صالح المغامسي": تخبر يا واد كلمته قدام طويل العمر؟ نعم.. إنه يتلقى العلاج الآن في جدة، وغداً في الرياض! "قلبي داعي له والله".. ولكن لماذا لم يتم علاجه في حضنك؟ يوووه.. خلاص.. غير الموضوع.. سمعني إش بيقول ولدي حبيبي التاني/ "حسين العروي":

ياطيبة الحب هذا شاعرٌ غَرِدٌ * أتى يغنيكِ يا شعر الفتى الغردِ

هل تذكرين؟ سؤالٌ نابتٌ، عمرٌ * ممزّق وانطفاءاتٌ مالها عددُ

الآنَ في جبهتي أقصوصةٌ ودمي * آثار قافلةٍ راحت ولم تعدِ!

هل يقصد القافلة أم الآثار يا أمي؟ أين "عيونك" التي كانت تسقي بدموعها الليمون والعنب، وتغمض جفونها على أسرار بني "عذرة" وبناتها؟ أين "آطامك" الـــ.. وَيْ: تبغى تمن على ضيوف الرحمن كمان؟ يكشف بحالك!

حسنٌ يا أمي: طلب وحيد وأغلق فمي، أرفعه لابنك "جبارة الصريصري" ـ وزير النقل ـ أرجوه أن يزورك عبر طريق الهجرة، ويحكم هو: هل يليق هذا الطريق الأجرد، ومحطاته التي تنقطع عنها الكهرباء ليالي وأياماً، بحجاج بيت الله؟ و..اختم أنت يا حسين:

يا طيبة الحب ياعهداً يموسقنا * تبقين نخلاً ويبقى الطفل في خلدي!!