الحب جنون، هكذا تقول لنا الروايات التي نقرؤها منذُ صِغرنا، تروي لنا كيف عبر العاشقون عن عشقهم، والمحبون عن هواهم، وكيف جمعت بينهم الأيام، وكيف فرقتهم عن بعضهم بعضا، وحُبّ الوطن هو علاقة نموذجية في طبيعتها من أجمل وأرقى وأروع وأسمى علاقات الحب بين الأحبة، ملأت رواياته كتب التاريخ ونزف الأحبة في سبيله الدماء، وبذلوا في سبيل الحفاظ عليه وإنمائه الأرواح والغالي والرخيص. أجمل ما تكون روايات الحب في الوطن حين تكون للأوطان دُون غيرها من الأوطان قيمة نموذجية، ويُمثّل الانتماء لها حالة خاصة، في الانتماء لمعنى وقيمة يفتقدها الغير في أوطانهم. أقول هذا وأنا أعتصر ألما لما حدث في احتفالات عيدنا الوطني أو يومنا الوطني في المملكة العربية السعودية. هذا الوطن الذي يمثل قبلة المسلمين، وتُمثل رايته صلب عقيدتهم، ويقود من موقعه جُل مواقفهم السياسية، ويقفُ كل مسلم وكل عربي له احترامًا وتقديرا.

وطن كوطننا، بلا شك، لا تملك القلوب إلا أن تُحبه وتعشق كل جزء فيه وأن تعبر عن حبها هذا بما يمكن أن ينسب إلى شيء من الجنون - إذا افترضنا أن الحب جنون - ولكن أن يصل الأمر في تعبيرنا عن ابتهاجنا بيوم وطننا الثاني والثمانين إلى ما رأينا من تصرفات لا تخلو من شيء من الهمجية، أو إن أردنا أن نلطف اللفظ من اللاعقلانية، إلى الدرجة التي فقد فيها بعض الشباب أرواحهم، أو أدخلوا المستشفيات، أو كان نتاج تهورهم وفاة البعض ممن لا ناقة لهم ولا جمل في هذه التصرفات المتهورة، أو إصابتهم إصابات بليغة بما يُحزن أهلهم وذويهم ويجعل من هذا اليوم السعيد علامة فارقة للحزن والتعاسة في تاريخ الأسر. أن يصل الأمر ببعض من أراد أن يحتفل بهذا اليوم أن يتعدى على حقوق الآخرين وأن يتجاوز بطريقة تعبيره كل حُدود الممكن والمقبول والمعقول، مُستغلاً مساحة من الحرية أو عدم الممانعة أُتيحت له، فإن هذا أمر خطير ومؤشر لا بد من الوقوف عنده، وأن نضع علامة استفهام كبيرة. ما الذي بلغ بهؤلاء الشباب هذا المستوى من همجية التعبير والرغبة في التعدي على الآخرين؟ هل هو عدم القدرة على التقدير؟ أم هل هو عدم اكتراث بمقدرات الآخرين وممتلكات الوطن؟ هل هو عدم احترام لهذه المُنجزات التي نراها يمنة ويسرة؟ أم هل هو تعبير عن إحساس بالقصور، مهما كان هذا القصور ومهما كانت درجته؟ هل هو غياب الوعي والثقافة من خِلال مناهجنا الدراسية وتربيتنا الوطنية؟ هل هو غياب التربية الاجتماعية لهؤلاء الشباب؟

شاهدت احتفالات كثيرة مماثلة داخل المملكة وخارجها، لم يصل فيها الأمر - بغض النظر عن كمّ التجمعات- إلى ما وصل إليه الأمر في احتفالات اليوم الوطني، وذلك على الرغم من أن المُتاح في تلك الاحتفالات مُقارنة بالمُتاح في احتفالاتنا يتجاوز حدود المقبول لدينا في مجتمعنا وبيئتنا الإسلامية. لكن يبدو أن وجود البيئة النظامية الصارمة والثقافة والتوعية الملائمة بالفصل ما بين التعبير عن الفرحة والبهجة أو الرغبة في الاحتفال، والتجاوز على مقدرات واستحقاقات الآخرين أمر يُنّشأ عليه الطفل منذُ صغره, فيصل حين يصل إلى مرحلة عمرية معينة، وقد ملك زِمام نفسه واستطاع أن يُديرها في الغالب بالشكل الملائم مهما كان موضوع الاحتفال.

لا أُريد أن ألتفت إلى الوراء فقد صار ما صار، ولكنني أُريد أن أتوجه برسالة إلى وزارة التربية والتعليم آمل من خلالها أن تُراجع منهج التربية الوطنية لدينا، وأن تُحوله من مادة صامتة خافتة قليلة الوهج، إلى مادة حية تحرك القلوب وتربطها حقيقة بحب هذا الوطن، وتعلمنا كيف نمارس الجزء الخاص بنا من مسؤوليتنا الاجتماعية، وتعلمنا كيف نكون أعضاء فاعلين في هذا المجتمع لا أعضاء معطلين نطلب أن يصلنا العطاء دون أن نسعى إليه أو أن نسعى لإيصاله إلى غيرنا.

نريد من مناهجنا عموما أن تفعل دور "التربية" وأن تضعه جنبا إلى جنب إزاء دور "التعليم" ليكون شبابنا (وهم غالبية المجتمع) ممثلين مشرفين لوطننا الذي يستحق وتستحق رايته أن نسعى لأن نضعها في مكانها المستحق بين رايات الأمم.

تغريدة: الطاقة لا تفنى، ولكنها تتحول من حالة إلى حالة! الشباب طاقة هائلة إن لم توجه بشكل صحيح انتشرت الفوضى. فلنلم أنفسنا قبل أن نلومهم!