أنا مع والدتي ـ حفظها الله ـ أشبه ما نكون بعاطلين لا وظيفة لهما سوى تراتيل الضحى على شيء من (الميسور) والقهوة العربية. وكل يوم لي معها تفسيرنا الخاص لأحداث الكون وقواسمنا المشتركة والمختلفة في قراءة نشرات الأخبار وأبرز العناوين. والدتي وأنا طاقات تحليلية مهدرة لأننا نختصر كل الأخبار والحوادث في جملة واحدة.

أذكر مثلا أنها حين شاهدت أسامة بن لادن، ذات يوم مضى، لم تزد على القول: (حسبنا الله عليه "ضوّل" على الأمة).. أي أنه وضعها تحت الحساب والمراقبة والحصار بلغتنا القروية الشعبية، وهذا ما قالته كل جحافل التحليل، بدءا من المجلس الإسلامي للأقليات المسلمة بالغرب، انتهاء إلى نورة بنت محمد.

وبمناسبة ذكر الأسماء ترفض والدتي أن تكون (نكرة) أو استعارة وتورية. وكنا العام الماضي في المشفى المركزي لإجراء فحوصات وتحاليل دورية لها حين كانت تسمع الجميع يتحدثون عن أوراقها في كل الأقسام والعيادات تحت اسم: (أم علي).. وحين خرجنا سألتني: (من هي أم علي اللي ما بصموا عنها)؟ قلت لها هي أنت يا (أم قداح).. فأجابت على الفور: أنا نورة بنت محمد.

ولوالدتي مثلا موقف صارم من حركة الربيع العربي، وبالطبع قد لا تدرك الفوارق بين صنعاء والقاهرة وبنغازي الليبية، وحين أشرح لها أن هذه الجمهوريات قد أطاحت بفلان وأتت بفلان الآخر بديلا ترد على الفور: (يا ولدي جد البقر واحد).

وعلى ذكر الأنعام فآخر ما شاهدت مع والدتي هذا الصباح ليس إلا بضعة خبراء من (ناسا) الأميركية يحتفلون في الحديقة الخلفية لمركز (كاب كانيفرال) بورود أول صور من المريخ، وحين رأت أمي عبث الاحتفال الذي لا تعرف لماذا كان؛ قالت بسرعة: (يا ولدي ذولا النصارى مثل القراش) أي مثل بهيمة الأنعام. ولأني أعرف مواقف أمي العروبية وميلها الفطري إلى حركات اليسار وهي التي لم تقرأ حرفا واحدا منذ ثمانين سنة فأنا أؤمن أنها أنموذج عربي بالغ النقاء: حركة دائبة ولكن في ذات المكان والمربع. أمي لا تعلم أن هؤلاء (النصارى القراش) هم من صنع لها حبة الضغط التي تشربها في الصباح لتبدأ أسطوانة التحليل الإخباري، وحبة (الذاكرة) الساحرة في المساء كي نصحو في ضحى اليوم التالي على تراتيل تحليلية جديدة.

كيف ستكون الحياة بلا أم؟ لا شيء.