التقويم والمراجعة ضرورتان تمليهما حاجة الشعوب لبناء حاضرها والتوثب صوب مستقبلها.
الأمر الذي يدعونا لإثارة طائفة من الأسئلة عن ماهية المفاهيم الثقافية العربية المعتمدة لتقويم المكاسب، ومراجعة مسارات الإنجاز، وقياس منسوب التقدم أو التراجع في تحقيق الأهداف العامة في حيواتنا.
وهل حدث في تاريخنا الوسيط والحديث أن دلت المقاربات الواعية بين الحكومات والشعوب.. بين السلطة والمعارضة؛ على نقطة تحول في طرائق التقويم وأنماط المراجعة، بحيث تغدو الانتكاسات حافزاً يعزز إرادة التحدي، وتصبح المكاسب مصلحة مشتركة لا تقبل التأميم والمصادرة، حتى وإن تفاوتت الأدوار واختلفت الجهود وتمايزت مساهماتنا في صناعتها؟ ولماذا تستهوينا عملية النقد السياسي الموجه لأغراض الخصومة والثأر، ونستغرق الوقت كله في تصفية الحسابات السياسية الضيقة بينما لا تتفاعل مصالحنا الجمعية المشتركة ولا ننتج منهجية علمية للتقويم والمراجعة بوصفهما جزءا من أولويات النهوض – الوطني والقومي والإسلامي – الشامل؟
إن كانت الأخطاء الفادحة تردي آمال الأمة العربية والإسلامية فلأي حاجة يكون حرصنا البالغ على حراستها.
لدينا إشكالية تتعلق بالمعرفة، وربما كان من العمق والتعقيد ما يدعو لاعتبارها نتاج معضلة تربوية، تبدأ من الصفوف الأولى للنشئ وتنتهي بمقاصير الحكام ودواليب الإدارة ومدارج الجـامعات، ومحـاصصات السيـاسة والـسياسيين.
أجزم أن الإنسان العربي أكثر انسجاماً وتواؤماً مع الأخطاء الفظيعة والانتكاسات المروعة من حرصه على تصحيح المسار أو قدرته على تقديم البدائل الكفيلة بوقف عوامل الانهيار والقضاء على بيئة التخلف. وفي الغالب لا يكون هدف المراجعة – على ندرتها – معالجة أوجه السلب والقضاء على كوامن القصور قدر ما يكون ذلك وفق غايات ترمي للنيل من الشخوص المستهدفين بالإزاحة، ليحل بدلاً عنهم آخرون من لون سياسي مغاير، وتبعاً لذلك تسقط حكومات وتقوم أخرى، بينما تتوالى الممارسات نفسها، ونمضي إلى الوراء بهمة لا يفتر أوارها وحماس لا حدود له.
من وجع الأسئلة الحيرى نستقرئ سفر الثورات العربية بعد أكثر من نصف قرن على انطلاقتها، فكيف نترسّم مساراتها وعلى أي رصيد انتهت إليه وعودها؟.. ماذا عن مثاليات الانبثاق؟ وأي قدر تبقى من وهج الانطلاق؟ ولماذا انسد أفق ثوراتنا العربية الأولى واختارت الاستبداد وسيلة للتعبير عن ذاتها المستلبة فوصمت النقد بالحقد، والروية بالرجعية، وأحالت أهدافها العظيمة للتقاعد المبكر..؟
إنها أسئلة مؤلمة تتواتر على هامش مظاهر احتفاء يجري بمناسبة اليوبيل الذهبي لقيام ثورة سبتمبر أيلول 1962.. وددت لو كان بوسعي رؤية المصابيح المبثوثة في الشوارع بعينين غير مبتلتين وقلب لا يعتمره الأنين.. ولربما كان الانتشاء بمثل هذا النوع من المناسبات ممكناً بالنسبة لآبائنا يوم ميلاد الثورة، أو بعد بضعة أعوام من اندلاع شرارتها، أما وقد جاوزت العقود الخمسة من عمرها فإن أفضل صور الاحتفاء يتمثل في تحليل قدرة الثورة على مقاومة الشيخوخة، ومدها بهرمونات معرفية تنقذها من الإبهار الخادع وتساعدها على الإفلات من قبضة خاطفيها.
إن على الجمهورية في خمسينات عمرها أن تبحث عن بصماتها في صعدة والجوف، وتلقي نظرة عابرة على مسودات القادم معتماً فكرة الاصطفاء شاهراً ثقافة البطنين.. ولا يساورني أدنى شك بأن كثيراً من الناس ابتهجوا أول الأمر ودفعوا التضحيات الجسام من أجل الثورة، ثم عادوا أدراجهم تلازمهم مشاعر تورط كتلك التي تنتاب البائع ديناً!
إن كان في المجتمع من يعتدي على المصالح العامة نكاية بالحكومة فإن القول بتجريد الحملات العسكرية لتأديب هؤلاء ليس أهم من مراجعة مسيرة الثورة برمتها، إذ كيف نعدها ثورة وكل شواهد التخلف تحف واقع المجتمع وتفرض نفسها على مجريات الصراع بين قواه السياسية.
ما يجعل الثورات متجددة العطاء، متسارعة الخطوات، ضاربة الجذور في ضمائر الشعوب ليس قدرتها على الضوضاء، وإنما أثرها في تنمية الإنسان ورفع مستواه التعليمي والمعيشي، وكل ثورة مهما كانت عدالتها لا تكتسب شرعية وجودها في وعي المجتمع إن لم تقم بواجباتها الأساسية، وبمقدمتها بناء دولة القانون وإحلال الرفاهية في أوساط الشعب.
بيد أننا لا نعيب على الدولة في اليمن وفاءها إزاء (يوم من الدهر لم تصنع أشعته.. شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا) كما روى الشاعر الثائر الشهيد أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، بل نحن لا نحمل الحكومة مسؤولية الانحرافات التي اعترضت مسيرة الخمسين عاماً الماضية، إذ إن الذي يتحملهما أولئك الذين (أيقظوا حولنا الذئاب وناموا) فضلاً عن المتسللين إلى صفوفها.. ولا ريب أن الاحتفاء يعكس شيئاً من الحنين لأهدافها، وذلك يستدعي التقويم والمراجعة وتحاشي الانزلاق بالثورة الوليدة بين ذراعي الربيع القائض إلى نفس المنعرجات القديمة التي اعترضت ثورة سبتمبر وأكتوبر وقادت لانكسارات مزمنة، نحتاج في مواجهتها إلى رتل من الثورات.
ها هي صنعاء مزدانة بالقناديل والحكومة اليمنية ترمم بالاحتفالات بعض انقساماتها.. غير أن أحداً لا يدري لماذا تبدو ثورات العرب عموماً واليمن على وجه خاص أكثر قدرة على التماهي بنقائضها وأشد تأففاً من التطلعات المشروعة لجماهير الشعب؟