من أهم الأفكار التي مهّدت للديموقراطية وجعلتها ممكنة على الأقل نظريا إمكان فصل الأخلاق عن الدين. أو الاعتقاد بأن البشر قادرون بدون مدد سماوي على إيجاد التشريعات الأخلاقية. هذا ما جعل من دولة العدالة - بحسب تلك الأفكار- لا تحتاج بالضرورة لأساس ديني. من هنا نقلت الدولة الديموقراطية حق التشريع من الدين وممثليه إلى الناس عامة. القاعدة تقول إن كل إنسان عاقل قادر بإعمال الفكر والنقاش والجدل على معرفة الحق من الباطل والظلم من العدل. هنا تعود مهمة التشريع إلى مهمة مشاعة بدلا من كونها محصورة في طبقة أو عدد محدود من الناس. يقول جون ديوي إنه بدون هذه الثقة لن يكون هناك إمكان للديموقراطية. أي أنه بدون القناعة بأن الناس قادرون على تدبير شؤون حياتهم بأنفسهم فإن الديموقراطية لا معنى لها. سأحاول المرور بسرعة في هذا المقال على تجربتين ديموقراطيتين قديمة وحديثة لإيضاح هذه الفكرة.
التجربة الأولى هي تجربة الإغريق في أثينا. رغم وجود الآلهة الإغريقية بكثرة إلا أنها لم تكن آلهة مفارقة بقدر ما كانت آلهة بشرية. أو رموز دينية وفنية لأفكار بشرية تعبّر عن قيم الخير والشر، القبح والجمال، المطر والجنس إلخ من الأفكار البشرية التي شغلت البشرية على طوال التاريخ. بمعنى أن الآلهة الإغريقية لم يتم التعامل معها على أنها مصدر بقدر ما كانت تعبير عما يجري في أثينا. إلا أن هذا لا يعني أن هذه الأديان والآلهة لم تستثمر سياسيا واجتماعيا لتثبيت قيم وأفكار معينة تخدم طبقات معينة. نعلم أن سقراط نفسه ذهب ضحية مصارعته لتلك القوى ولكن المجال العام الإغريقي كان متنوعا ومفتوحا لدرجة أن خطا دينيا واحدا لم يستطع السيطرة واحتكار التفكير والتشريع. سقراط وأفلاطون وأرسطو أمثلة على محاولات تشريع بشرية للأخلاق. سقراط كان يجوب أثينا متتبعا مدعي المعرفة ليكشف لهم قصور معرفتهم ومعرفته هو. كان سقراط مشغولا بسؤال العدالة وسخّر جل حياته محاولا فتح هذا المجال للتفكير من جديد. تلميذه أفلاطون وإن كان كما تقول حنة أرندت قد أدار ظهره للديموقراطية والتنوع في مجتمع ليرسم جمهوريته الفاضلة المبنية على أسس ثابتة وفوقية إلا أنه في كل ما فعل كان يقول إن العدالة والأخلاق والفضيلة موضوعات للعقل البشري وهو صاحب القول فيها. أرسطو أيضا جعل الأخلاق علما له مبادئه ومناهجه. مع هذا كله كانت الديموقراطية ممكنة، إذا كان التشريع ممكنا للإنسان فلم يعد من الضروري اتصال الدولة بقوّة متعالية على الإنسان تخبره ما يفعل وما يترك، سيتضح هذا الفرق كثيرا مع الدولة الدينية المسيحية ثم الإسلامية حيث تحول التشريع إلى أمر إلهي يستجيب له الناس بالسمع والطاعة. ولذا لن نستغرب شكوى الكثير من الباحثين العرب من ندرة المؤلفات في التاريخ الإسلامي المخصصة للأخلاق. باختصارالأخلاق أصبحت جزءا من الدين. الدين هو من يحدد ما هو الحق وما هو الخير. النقاش المنجز لاحقا يدور في رحى تفسير وتبرير وشرح الموقف الديني أو صراع داخل ذات الدائرة ولكن الأخلاق بقيت داخل المبحث الديني. إذا كانت الأخلاق محصورة في البحث الديني المتعالي فإنه من الطبيعي أن تتولى الفئة القائمة بهذه المهمة لب الدولة وهو التشريع. حين يخرج التشريع من الناس تستحيل الديموقراطية.
التجربة الثانية هي التجربة المعاصرة في الغرب وكثير من دول العالم والتي انطلقت مع انطلاقة عصر الحداثة في أوروبا. يمكن تسمية هذا العصر عصر نشأة العلوم واستقلالها. بمعنى أن أغلب المعارف كانت محصورة داخل المبحث الديني/الفلسفي في القرون الوسطى ومع الحداثة بدأ كل علم يستقل بمنهجه وطبيعة موضوعه. العلوم الطبيعية استقلت لأول مرة، علم النفس استقل، علم الاجتماع وكذلك استقلت الأخلاق. من أهم الأسماء التي ساهمت في استقلال الأخلاق عن الدين تحديدا الفيلسوفان ديفيد هيوم (1711-1776) وإيمانيويل كانت (1724-1804). عند هيوم أساس الأخلاق هو الحس البشري وليس شيئا آخر. الخوف هو أساس بحثنا عن السلم والعدالة. الحب هو أساس تشريعنا للإحسان للغير ولأنفسنا. هذه المشاعر والأحاسيس الطبيعية هي في نهاية المطاف الأسس الحقيقية لكل قيمنا الأخلاقية. البشر كائنات أخلاقية لا لأنهم يستقبلون تعليمات من جهات أخرى ولكن لأن لهم مشاعر وأحاسيس تدفعهم لوضع قوانين أخلاقية. ولذا فكل المجتمعات،سواء المتدينة أم غيرها لديها قيمها الأخلاقية. في المقابل أسس كانت فلسفته الأخلاقية على الضرورة العقلية. بمعنى أن الأخلاق متأسسة على مقدمات عقلية ضرورية لا تستقر الحياة بدونها. على سبيل المثال خذ قيمة الصدق. يرى كانت أن الوفاء بالوعد والصدق هما شرط أولي لتكوّن المجتمع الإنساني ولولاه لاستحال التعايش بين الناس. لاحظ مثلا أن كل سلوكك اليومي قائم على افتراض الصدق في الآخرين. تتناول طعامك لأنك تثق في من صنعه، تقف عند إشارة المرور لأنك تثق بالتزام الآخرين، تشرب الماء لأنك تثق في من قام بتعليبه، الزواج أيضا يفترض الصدق، تضع مالك في البنك لأنك تثق لحد ما أنهم سيفون بوعدهم لك ويحفظونه. الصدق عنها ضرورى ولا يحتاج إلى تشريع خارجي للالتزام به.
هذا الاستقلال للأخلاق جعل برأيي الديموقراطية ممكنة لأن فكرة أن الحكم للشعب أو أن الشعب مصدر السلطات لن يتحقق لها معنى إلا إذا كان يتضمن أن الشعب قادر على التشريع الأخلاقي بنفسه. هنا برأيي واحدة من أهم العقبات أمام أي مشروع ديموقراطي يريد جمع الديموقراطية والدين في دولة واحدة كما تفعل بعض "الديموقراطيات" الإسلامية المرتقبة من الانطلاق من مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات ثم تتلو ذلك بأن الشريعة هي مصدر التشريع وأنه لا يجوز تشريع ما يخالفها لينتج لنا في الأخير شعب بدون سلطة تشريع رغم أنه مصدر السلطات!!