بعد أن بدأت الثورة في مصر تبدي مؤشرات نحو الاستقرار والابتعاد عن العنف، تطورت الأمور فجأة بشكل مثير للقلق عندما هاجمت عناصر من "البلطجية" محتجّين إسلاميين مؤيّدين للمرشح الرئاسي السلفي حازم أبو إسماعيل، كانوا يعتصمون أمام وزارة الدفاع في العباسية في القاهرة احتجاجاً على استبعاده من المنافسة للانتخابات الرئاسية. المعتصمون كانوا قد قضوا عدة أيام أمام الوزارة مطالبين بإنهاء حُكم المجلس العسكري. ولقد أدت أحداث العنف في العباسية إلى قتل وجرح عشرات المصريين، مما جعل عدة مرشحين رئاسيين يعلنون تجميد حملاتهم الانتخابية حداداً على أرواح القتلى، ووجه كثيرون أصابع الاتهام إلى المجلس العسكري بافتعال أحداث العباسية أو الفشل في منعها على الأقل.
مثل هذه التطورات تُثير العديد من التساؤلات وإشارات الاستفهام حول الاتجاه الذي تسير فيه مصر، وفيما إذا كانت الانتخابات الرئاسية ستتم في موعدها ويتنازل المجلس العسكري الحاكم عن السُلطة للرئيس المنتخب. وقد نشرت "مجموعة الأزمات الدولية" في أواخر أبريل المنصرم دراسة حول طريقة تعامل المجلس العسكري الحاكم في مصر مع الأزمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. تقول الدراسة إن المجلس العسكري المصري استلم السُلطة بعد الإطاحة بحسني مبارك، لكن أداءه منذ ذلك الوقت يبعث على الحيرة. فقد نظر الكثيرون بصورة إيجابية إلى المجلس في أعقاب الانتفاضة بوصفه حامي الثورة، لكن فيما بعد بات كثيرون ينظرون إليه بوصفه لاعباً رئيسياً في الثورة المضادة. ويضع المجلس اعتبارات خاصة لعلاقاته الطويلة مع واشنطن، التي يتلقى منها مساعدات عسكرية كبيرة، لكنه بدا مستعداً للمخاطرة بهذه المساعدات عند استهدافه للمنظمات غير الحكومية الممولة أميركياً. نظراً لاتهامه من قِبل الإسلاميين بأنه يسعى لحرمانهم من فرصة الحُكم ومن قِبل غير الإسلاميين بالدخول في اتفاق سري مع الإخوان المسلمين، فإنه يجد نفسه في أسوأ وضع ممكن يتمثل في التجاذب مع المتظاهرين الليبراليين، من جهة، والتنافس المتوتر مع الإسلاميين، من جهة أخرى. لا يُظهر المجلس الأعلى اهتماماً كبيراً بمسائل الإدارة الحكومية، بل يرغب بدلاً من ذلك بحماية امتيازات القوات المسلحة، إلاّ أن سلوكه المتخبط يهدد حتى تلك المصالح.
وتضيف دراسة مجموعة الأزمات الدولية أن فهم طريقة تفكير الجيش المصري مسألة صعبة. يتمثل العنصر المحوري في المنظور التفكيري للمجلس الأعلى في قناعته بأن انتقاداته الرئيسية لنظام مبارك – الانزلاق نحو الحُكم الوراثي؛ وتجاوزات السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة؛ والفساد الصارخ للشبكات المرتبطة بعائلة الرئيس السابق – كانت تعكس بأمانة جل انتقادات الشعب. وبمجرد أن تمت الإطاحة بالرئيس مبارك، شعر المجلس أنه حقق أهداف الثورة. وهكذا فإن المجلس الأعلى يميل إلى النظر إلى كل من استمر في الاحتجاج بعد سقوط مبارك على أنهم إما يخدمون مصالحهم الأنانية الضيقة أو الأسوأ من ذلك، يخدمون مصالح القوى الأجنبية (خصوصاً الولايات المتحدة) التي تهدف لإضعاف وتفتيت دولة عربية كبيرة وهامة. ما من شك في أن الفكرة الأخيرة استعملت كأداة من قِبل المجلس الأعلى لنزع المصداقية عن منتقديه؛ لكن سيكون من الخطأ رؤيتها من هذا المنظور فقط، حيث إنها تُشكِّل قناعة عميقة في الأوساط العسكرية المصرية.
وتؤكِّد الدراسة أن المجلس العسكري يعتبر نفسه اللاعب الوحيد الذي يمتلك الخبرة، والنضوج والحكمة الضرورية لحماية البلاد من التهديدات الداخلية والخارجية. على النقيض من ذلك، فإنه ينظر إلى جميع الأحزاب السياسية الأخرى على أن لها مطالب أنانية، وأن سلوكها يتَّسم بضيق الأفق. يُشكِّل الإخوان المسلمون استثناء من نوعٍ ما، حيث يعاملهم الجيش بشيءٍ من الاحترام الحذر. لكنه احترامٌ نشأ عن معركة طويلة وقاسية ضد منظمة غير قانونية تغلبت على عقود من الاضطهاد. ولأن الإخوان يمثلون القوة السياسية المنظمة الوحيدة التي ينبغي للمجلس التعامل معها، فإنه عاملها بجدية – وهذا لا يعني أنه بالضرورة تعاطف معها.
ويدافع المجلس العسكري عن مزيج من المصالح الوطنية والمصالح الضيقة الخاصة بالمؤسسة العسكرية، لكن وحيث إن الجيش مقتنع تماماً بأنه الوحيد القادر على حماية مصر، فإنه ينزع إلى تضخيم وخلط مصالحه بحيث تتطابق مع مصالح البلاد. مع تزعزع الاستقرار الداخلي، والوضع الهش في سيناء وحالة عدم اليقين في ليبيا والسودان، فإن المجلس لا يعتقد بأن الوقت مناسب للثقة بمدنيين يفتقرون إلى الخبرة. وهو لا يرى أيضاً أن الوقت مناسب كي يتحدى الآخرون مكانة وامتيازات الجيش – مثل ميزانيته السرية المحمية من الرقابة المدنية؛ والحصانة من الملاحقة في القضاء المدني بحُكم الأمر الواقع؛ والمشاريع التجارية والصناعية التي تُؤثِّر في قطاعات رئيسية من الاقتصاد. إنه يهدف إلى البقاء وراء الكواليس لكنه يرغب، في الوقت نفسه، في أن يظل هو الحكم (وليس الحاكم)؛ وكذلك الابتعاد عن الأضواء لكن مع احتفاظه بنفوذ حاسم.
المشكلة هي أن كل ما فعله المجلس الأعلى وكل ما حدث منذ استلامه للسُلطة جعل ذلك الهدف أبعد منالاً. لقد أدت سياسته في استعمال العلمانيين ضد الإسلاميين والإسلاميين ضد العلمانيين إلى تنفير الطرفين تجاهه. بعد فترة من التفاهم الضمني على الأقل، فإن القوتين الرئيسيتين – المجلس الأعلى للقوات المُسلَّحة والإخوان المسلمين – تبدوان عالقتين في لعبة يُشكِّل فيها أي مكسبٍ لأحد الطرفين خسارة للطرف الآخر.
لكن هناك حاجة مُلحّة لفعل ما كان المجلس الأعلى غير مستعد أو غير قادر على فعله منذ البداية، وهو إجراء مشاورات موسّعة وجادة مع ممثلين عن الطبقة السياسية برمّتها والتوصل إلى اتفاق عبر التوافق حول المعايير الرئيسية للنظام السياسي المستقبلي – صلاحيات الرئاسة، وتركيبة اللجنة الدستورية وأساس العلاقات بين المؤسسات المدنية والمؤسسة العسكرية. إن توضيح الرهانات الحقيقية التي تنطوي عليها الانتخابات الرئاسية، وتحديد آليات الرقابة، وتحقيق التوازن، والتأكد من أن الضمانات الأساسية يمكنها حماية المصالح المختلفة، سيؤدي إلى تخفيف حدة التصعيد في السباق الرئاسي ويحوّله من صراع وجودي خارج عن نطاق السيطرة بين أطراف متناحرة إلى عملية سياسية قابلة للإدارة.