من يتمعّن في الحركة الفكرية البشرية وعبر التاريخ الإنساني الطويل وصولاً إلى العصر الحديث. ويرى كم الأفكار والنظريات والأنظمة التي أوجدها العقل الإنساني عبر الفلاسفة والمفكرين منذ فلاسفة اليونان كأفلاطون في كتابيه (الجمهورية) و(المدينة الفاضلة) مرورا بقوانين (حامورابي) وكتاب (الأمير) لميكافيللي وحتى الأنظمة الحديثة كالاشتراكية (لكارل ماركس) والديموقراطية والرأسمالية أو حقوق الإنسان في الحاضر؛ يجد أن الهدف الأساسي الذي يحرك العقل الإنساني للبحث والتفكير هو حلم (العدالة المطلقة). باختلاف صور هذه العدالة لدى كل مفكر أو فيلسوف. وإن كانت ترتكز في معظمها على أن يتساوى الناس وينالوا حقوقاً كاملة ومتساوية على اختلاف أعمالهم وأجناسهم وألوانهم وعقائدهم. وأن ينتهي الظلم نهائيّاً في هذه الحياة. وهي أفكار مليئة بمثاليات الطرح الفلسفي المحض، التي لا يمكن تنفيذها في واقع الحياة البشرية. لأسباب عدة منها أولا: أنها تنافي سنة الله في هذه الحياة الدنيوية وحكمته في تمايز الناس عن بعضهم البعض، وجعل الناس درجات بعضهم فوق بعض، ولكن، دون ظلم.

وهو سر توزيع الأرزاق بين الناس واستمرار الحياة. وثانيا لأن العدالة المطلقة من سنن الآخرة وليست من سنن الحياة الدنيا. ففي الآخرة تتحقّق العدالة المطلقة بين البشر بكل درجاتهم وطبقاتهم وأجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. وينتهي الظلم فعلاً. لماذا؟ لأن الله تعالى هو الذي يحكم بين النّاس في الآخرة، بعدله المطلق، بينما في الدنيا الذي يحكم هو الإنسان بضعفه البشري وميله لنفسه ومصالحه. وثالثاً لأن الأفكار البشرية لا يمكن أن تحقق العدالة المطلقة لأن صانعها وواضعها هو الإنسان، تغلبه أنانيته وحبه لنفسه، كما يغلبه نقصه البشري الّذي خُلق به. ولذلك سقطت الكثير من هذه الأنظمة، كالاشتراكية، وفشل الكثير أيضا كالديموقراطية، لأنها اصطدمت (عند التطبيق) بغرائز بشرية طبيعية كحب التملك، وحب التميز.

لقد نجح العقل الإنساني في إنتاج الكثير من الأفكار والنظريات والأنظمة المفيدة التي يسرت حياة الإنسان على هذا الكوكب، لكنه فيما يتعلق بهذه المسألة تحديداً ـ أعني تحقيق العدالة المطلقة ـ لم ينجح. لماذا؟ لأنه يتجاوز هذه الحقائق البدهية عن السنن الإلهية للحياة البشرية في هذا الكون. وعليه يمكن تحقق (العدالة المطلقة) فقط من خلال الشريعة الإسلامية التي هي من عند الله تعالى، فخالق الخلق أعرف بما يحتاجه الخلق، وبما يصلح لهم ويحقق العدالة بينهم، غير أن الإنسان بصفته المسؤول عن تطبيق شريعة الله في الأرض لا يحقق هذه العدالة المطلقة لأنه يحيل الحق باطلاً والباطل حقا بحثاً عن مصالحه الشخصية. ولذلك نجد أن كل الناس في كل مجالات الحياة يشتكون ويتذمرون من هذه الدنيا وما فيها من جور.

إنه الإنسان بضعفه البشري! حين تُناط به مسؤولية تحقيق العدالة، يظلم ولا يحقّقها، وحين يظلم يبحث عن العدالة المطلقة.