بندر العسيري - الرياض


على الرغم من التطور الكبير والملموس والخطى المتسارعة والوثبات الكبيرة في البرامج والمشاريع التي تشهدها العملية التربوية والتعليمية في بلادنا, إلا أننا لا زلنا نلمس ونشاهد العديد من الفجوات والحلقات المفقودة التي تسهم بشكل أو بآخر في إخفاء ملامح كل نجاح وكل تطوير في هذه العملية.

ويستطيع المتتبع الواعي أن يشخص واقع التربية والتعليم بمنظاره الانطباعي على أقل تقدير, من خلال جملة من المشاهدات الإيجابية التي تزيد من ثقة المجتمع بمخرجات ومنتجات التربية والتعليم من جهة, أو مشاهدات سلبية تفرزها بعض التصرفات اللاواعية من بعض المنتسبين لهذه العملية طلاباً ومعلمين ومشرفين وإداريين من جهة أخرى.

ويجتهد خبراء التربية والتعليم في معرض محاولاتهم ردم تلكم الهُوّات المتناثرة في طريق العملية التربوية والتعليمية في تقديم جملة من الحلول العملية التي تشبه إلى حد كبير تلك المسكنات التي يصرفها طبيب الطوارئ, فتارة يلجؤون إلى وضع لائحة لمعالجة سلوكيات الطلاب وتخفيض نسبة غيابهم عن المدارس, إلا أن قياس أثر هذه اللائحة ومؤشرات أدائها لا يدل على فاعليتها وجدواها, فالمشكلات السلوكية في ازدياد ونسب الغياب في ارتفاع ملحوظ.

ويجتهد خبراء التربية والتعليم تارة أخرى في وضع ميثاق أخلاقي لمهنة التعليم, والذي وضع ليوضح للمعلمين والمعلمات والمشرفين والمشرفات والطلاب والطالبات أهمية مهنة التعليم وأبعادها وقيمتها ورسالتها وأهدافها التي نصت على توعية المعلمين بأهمية المهنة ودورها في بناء مستقبل الوطن, والإسهام في تعزيز مكانة المعلم العلمية والاجتماعية. وإذا ما تم قياس أثر هذا الميثاق وفق مؤشرات ملموسة فإننا لا نستطيع أن نجزم بنجاحه كمنتج تربوي ألقى بظلاله على مجتمع التربية والتعليم, فحالات عدم الرضى موجودة ومشاهدة من قبل المعلمين والمعلمات, وشهادات الاستياء من الواقع المهني كل يوم في ازدياد.

إنني أعتقد جازماً بأن المعلم والمعلمة والمشرف والمشرفة والطالب والطالبة حلقات لسلسلة ذهبية وسبيكة لامعة في مجتمعنا السعودي الأصيل, ومن الأهمية بمكان أن يعي كل مسؤول أهميتهم كشريحة فكرية تسهم في بناء الإنسان وفق النهج السليم المستمد من الاستقامة الفكرية والروحية التي جاء بها ديننا الحنيف. ومن هذا المنطلق أرى بضرورة انطلاق كل مبادرة أو برنامج أو مشروع أو منتج في مجال التربية والتعليم من وثيقة سياسة التعليم في بلادنا والتي وضعت عام 1389 وجاءت في ما لا يقل عن 236 مادة توجيهية أكدت على حقوق الطالب والمعلم والأدبيات التي يجب أن تكسو العملية التعليمية والأسس التي يرتكز عليها كل منتج تربوي, كما جاءت لتبرز قيمة الإنسان السعودي وأهمية بنائه البناء السليم فكرياً وروحياً وبدنياً, وتزويده بالقيم والأخلاق والفضائل السامية, ومواكبة متغيرات العصر وتقنياته, والمساهمة في التنمية الوطنية والاستفادة منها.

وتتميز وثيقة سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية بكونها خلاقة ومرنة ومتكاملة وواضحة, وصالحة لكل زمان ومكان, وذات غايات وأهداف توجيهية عامة وخطوط عريضة, لا تدخل في التفاصيل التنفيذية بل إنها تعنى بالسياسات التشريعية, وإنني أرى أنه من الأهمية بمكان أن يستوعب كل منتم للعملية التعليمية والتربوية أبعاد هذه السياسة لما لها من أثر كبير في توجيه العمل التربوي والتعليمي بشكل عام, فليس من المعقول ولا من المقبول أن يُقبل المعلم على هذه المهنة دون التعرف على سياستها وأدبياتها وأنظمتها وأدوارها التي تسهم في دفع عجلة التنمية في بلادنا, وينسحب ذلك على المخططين التربويين في معرض تبنيهم لكل فكرة جديدة أو مشروع جديد.

ومن الممكن تفعيل مواد وثيقة سياسة التعليم في المملكة من خلال قنوات التدريب التربوي وترجمتها إلى مشروع تدريبي للمعلمين الجدد وكتيبات صغيرة لمن هم على رأس العمل وموضوعات توجيهية في مادة الوطنية لأبنائنا الطلاب وبناتنا الطالبات, إضافة إلى إمكانية تحويلها إلى سيناريوهات تمثل على خشبة المسرح المدرسي أو تصور كمادة فلمية تعرض في مراكز مصادر التعلم والإذاعة الصباحية. وفي الواقع أن الآمال كبيرة في أن يعزز هذا التوجيه سلامة الفكر التربوي وانطلاقته الرصينة من أرضيته الصلبة التي تؤكد أصالة مرتكزات التعليم في بلادنا المبني على أسس وغايات واضحة المعالم ترسخ العمل التراكمي وتَطّرِح الاجتهاد الآني المنقطع والتخبطات التي لا تليق بالمجتمع التربوي الذي يؤمل فيه المشاركة الفاعلة في التنمية المستدامة للوطن.