في 12 سبتمبر 2012، اشتعل حريق هائل في مصنع للملابس في مدينة كراتشي أودى بحياة نحو 300 عامل، في أسوأ حادث صناعي في تاريخ باكستان. وللمقارنة، فإن عدد ضحايا هذا الحادث هو ضعف عدد القتلى في الحريق المشهور الذي اشتعل في مصنع (ترايانجل للقمصان) منذ مائة عام في مدينة نيويورك، حيث أكتب مقال اليوم. وقد أدى حريق نيويورك، والذي ما زال أسوأ حادث صناعي في تاريخها، إلى إعادة النظر جذرياً في إجراءات السلامة، مما جعل نيويورك اليوم إحدى أكثر البيئات الصناعية سلامة وأماناً، ولم يحدث منذ ذلك التاريخ حادث في مثل هذه الضخامة أو قريب منها.
فهل يؤدي حريق كراتشي إلى نتيجة إيجابية مماثلة؟ أم ستعود الأمور إلى ما كانت عليه بعد أن تقل المتابعة الإعلامية والضغط الدولي لمراجعة أوضاع العمل فيها؟
لقد أظهر حادث كراتشي نقاط الضعف في نظم السلامة والإشراف والرقابة على المستويين المحلي والدولي. فعلى المستوى المحلي، اتضح من التحقيقات الأولية عدم وجود متابعة لتطبيق إجراءات السلامة، وثمة اعتماد شبه كلي على أصحاب المصانع والمؤسسات الدولية التي تم تشكيلها من قبل الشركات الأجنبية لمتابعة تطبيق تلك الإجراءات.
ففي يوم الاثنين الماضي، تم تكليف لجنة حكومية للتحقيق في ظروف الحريق ومسبباته، ووجدت اللجنة بالفعل نقاط ضعف عديدة، حيث قال أحد مفتشي السلامة الكهربائية في إحدى جلسات الاستماع إنهم توقفوا عن زيارة هذا المصنع منذ عام 2003. واتضح كذلك أن المبني كان مرخصاً له باستخدام 250 عاملا، في الوقت الذي كان يعمل فيه 1000 عامل وقت الحريق، وكان سبب تشغيل هذا العدد الكبير من العمال ارتفاع عدد الطلبات على المصنع من عملائه في ألمانيا، حيث تحتاج الأسواق إلى مضاعفة المعروض من بضاعتها استعداداً لمواسم الأعياد هناك.
وبعد الحريق هرب المُلاّك الثلاثة من كراتشي، ولكنهم أحضروا أمام القضاء في مدينة لاركانا على بعد 300 كم شمال المدينة. وقام البنك المركزي الباكستاني بتجميد حسابات لهم بقيمة خمسة ملايين دولار، وهو مبلغ زهيد مقارنة بحجم الكارثة وما قد تتطلبه من تعويضات.
وفي 15 سبتبمر، استقال وزير الصناعة في ولاية السند (عبدالرؤوف صديقي) احتجاجاً، لأنه وجد نفسه، حسب قوله: "عاجزاً ودون أي صلاحيات للتحرك ضد المسؤولين عن حريق كراتشي".
ولما كان من الواضح أن باكستان قد فوضت الإشراف على هذه المصانع لأصحابها ولعملائها الأجانب، كما أن المُلاك، وهم شركة باكستانية معروفة، خالفوا تعليمات السلامة في نواح كثيرة. فما هي الإجراءات البديلة التي تم اتخاذها على المستوى الدولي؟ ماذا عن عملاء المصنع، الذين أخذوا على عاتقهم مراقبة ظروف العمل في مصانع العالم الثالث التي يتعاملون معها؟ وهنا نتحدث عن متاجر مشهورة ومصممين عالميين في أوروبا وأميركا. اتضح الآن أنهم أوكلوا المهمة لمؤسسة خاصة مقرها نيويورك، هي (مؤسسة المسؤولية الاجتماعية الدولية)، تقول بأنها مستقلة ولا تهدف للربح، ولكنها في الحقيقة ممولة من قبل شركات الملابس والإلكترونيات الغربية، وهذه المؤسسة بدورها تتعاقد مع شركات خاصة تتولى التفتيش على المصانع للتأكد من التزامها بإجراءات السلامة وقوانين العمل.
وقبل نشوب حريق كراتشي بأسابيع قليلة، قام ممثلو شركة إيطالية للتفتيش تتعامل معها (مؤسسة المسؤولية الاجتماعية الدولية) بزيارة المصنع المنكوب للتفتيش عليه، وأعدوا تقريراً إيجابيا عن المصنع في تسع مجالات مختلفة موضحة على موقع المؤسسة على الإنترنت، بما في ذلك تدابير السلامة ومكافحة الحريق! ويقول بعض العمال الآن إنهم أمروا بإبلاغ المفتشين بأن كل شيء على ما يُرام. وبهذا يبدو أن حريق كراتشي ليس محرجاً فقط لنظم السلامة المحلية، بل هو أكثر إحراجاً لمؤسسات المراقبة الدولية التي كان من المفروض أن تقوم بالتأكد من التزام هذه المصانع بشروط السلامة.
وبوجودي في نيويورك هذه الأيام، فإن حريق كراتشي أعاد لذهني حريق مصنع (ترايانجل للقمصان) في 25 مارس 1911، أي من نحو مائة عام، وكان حدثاً تاريخياً بارزاً، حيث ما زال يُعتبر أسوأ حادث صناعي في تاريخ المدينة ومن أسوأ حوادث الصناعة في تاريخ الولايات المتحدة. وقد أدى ذلك الحادث إلى تعزيز إجراءات السلامة الصناعية في نيويورك بحيث أصبحت أحد أفضل المناطق في هذا المجال، وكان لذلك أثر مباشر على بقية الولايات الأميركية وعدد من الدول الصناعية. فقد أودى حريق مصنع (ترايانجل)، الواقع في قلب منهاتن، بحياة (146) شخصاً، منهم (129) فتاة من المهاجرات الأوروبيات العاملات في مجال الخياطة، قضين نتيجة الحريق أو القفز من الأدوار العالية للمبنى، وتشبه ظروف هذا المصنع ظروف مصنع كراتشي، إلا أن خسارة الأرواح في كراتشي كانت ضعفها في نيويورك.
وقد دفعت الاحتجاجات التي تلت حريق نيويورك برلمان الولاية إلى تشكيل (هيئة التحقيق في المصانع)، وكلفها بـ "التحقيق في ظروف في مدينة نيويورك وغيرها من المدن ورفع تقرير بالإجراءات التصحيحية المطلوبة لمنع أخطار السلامة وحماية العاملين فيها من أخطار الحريق وعدم النظافة والأمراض المهنية." وعقدت هذه الهيئة جلسات استماع علنية في كافة أنحاء ولاية نيويورك واستعانت بمفتشين قاموا بزيارة المصانع والتحقيق في أوضاعها، وأدانت الهيئة 200 مصنع في مدينة نيويورك وحدها، قالت إنها كانت مرشحة لحدوث حريق يشبه حريق مصنع ترايانجل.
وقد أدى ذلك الحدث إلى تحديث قوانين السلامة والعمل في نيويورك، حيث أقر برلمان الولاية نحو 60 قانوناً بهذا الشأن بين عامي 1911 و1913م. وتأسست في الفترة نفسها في نيويورك (الجمعية الأميركية لمهندسي السلامة) التي ساهمت في تطوير وتوحيد إجراءات السلامة الصناعية في العالم.
فهل يحدث ذلك في باكستان أيضاَ؟ هل تستطيع أن تخطف من براثن الموت نظاماً جديداً للسلامة الصناعية والرقابة يمنع تكرار مثل هذه المأساة الأليمة التي وقعت في كراتشي؟ أم أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه، ويغلب عامل الربح السريع على ما سواه؟