استمر توتر العلاقات بين الحكومات وجماعات الإسلام السياسي لأكثر من خمسين عاماً مضت، إذ كانت الأنظمة القائمة في الدول العربية والإسلامية تمنع تلك الجماعات من ممارسة السياسية خوفاً من الوصول إلى السلطة؛ فلجأت تلك الجماعات إلى العمل على جبهتين: الأولى هي الاعتماد على العنف عبر التفجيرات والاغتيالات السياسية ومحاولة القيام بالانقلابات العسكرية، والثانية هي (أسلمة) المجتمع وفق طريقتها ليكون ولاؤه لها فيسهل عليها التحكم به، معتمدة بذلك على الخطاب الديني المختلط بالنشاط الاقتصادي برؤوس أموال ضخمة إما لأعضائها أو للمتعاطفين معها.

وحين صنعت هذه التوجهات مشكلات سياسية اتسمت بـ(العالمية) توالت مسألة البحث عن حلول ناجعة وتمخضت تلك الحلول عما أستطيع تسميته بنظرية التأهيل. أي تأهيل تلك الجماعات والأحزاب للممارسة السياسية مقابل تراجعها عن خطابها العدائي المتطرف، وكانت التجربة الأردنية في عهد الملك حسين عام 1989 أولى تجارب التأهيل العربية تطبيقياً، إذ تم السماح لجماعات الإسلام السياسي بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية.

ثم ظهرت تجارب في دول أخرى كالمغرب والجزائر وتركيا، بعضها نجح والبعض الآخر تعثر ثم فشل لعدم الجاهزية له مثلما حدث في الجزائر، إلا أن المحصلة كانت القبول بإشراك تلك الأحزاب مقابل تبنيها خطابا دينيا معتدلا سياسياً.

لقد وفر الانحياز الاجتماعي للخطاب الديني الدعم والأمان لهذه الجماعات السياسية، ولا سيما بعد سلسلة من التراجعات الفكرية التي أعلنها بعض قادتها في ظل ظاهرة (التدين) التي اجتاحت كثيرا من المجتمعات العربية الإسلامية والتي آلت إلى تنامي الفكر المتطرف، مما أفضى إلى حادثة 11 سبتمبر الشهيرة.

وبدا للحكومات الغربية والأميركية بوجه خاص بعد ذلك أن العداء لها سوف يتزايد خلال أعوام قادمة، وسببه الرئيس وجود هذه الجماعات خارج السلطة، وبالتالي أتاحت بعض الدول فرصاً خجلى أمام تلك الجماعات لتثبت جدارتها، مزامنة مع الحروب لتفكيك منظمات مثل القاعدة وخاصة خلال إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش.

لقد ركزت (نظرية التأهيل) على تحويل تلك الجماعات إلى نخب سياسية فاعلة وفق أنظمة ديموقراطية، مما يسمح لها بالاحتفاظ بانتمائها الإسلامي دون أن يكون العداء أساس علاقاتها بل الشراكة السياسية والاقتصادية والتعايش بين الشعوب، مع الاعتقاد بأن الخطاب الأيديولوجي لن يفيد فيه التأهيل ما لم يخضع لعمليات فكرية وثقافية يتم خلالها فصل الممارسات عن التراث الفكري الذي يشعل التطرف، فالحكومات والشعوب الغربية تريد ضوابط محددة تضمن عدم انتقال التطرف إليها.

ولذلك يمكن القول إن المرحلة التطبيقية لنظرية التأهيل هي إجراء تجارب سلوكية على تلك الأحزاب والجماعات كعينة للمجتمع وذلك من أجل الحصول على نتائج شبه مؤكدة تسمح بالانتقال إلى المرحلة التي تليها، وهي تأهيل المجتمعات برمتها عبر نقلها من الانغلاق والتشدد إلى الانفتاح وقبول الآخر، ليتمتع حينها مواطنو الدول العربية والإسلامية بالميزات الأساسية نفسها التي يتمتع بها المواطن الغربي؛ بشرط أن تستمر الأسباب الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية التي تدعو للاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، وهذا يعني أن عملية التأهيل هي إعادة صياغة تدريجية للمجتمعات لتنتقل في تصنيفها من (العالمثالثية) إلى العالم الثاني على أقل تقدير.

لقد أسهمت أحداث الربيع بتسريع تطبيق نظرية التأهيل عملياً، وقد شهد العالم وصول الأحزاب الإسلامية في تونس ومصر - على وجه التحديد - بسلاسة لقمة هرم السلطة، وقد حصلت حكوماتها على الدعم العالمي لمشاريعها، مما يعني أن أنها تسير في الطريق الصحيح نحو النظام الديموقراطي العالمي الجديد، بعد تخليها عن خطابها الديني المتطرف الذي كانت تتبناه سابقاً.

أما في ليبيا فثمة أمر يثير الاستغراب مع وصول الأحزاب الليبرالية للسلطة عبر صناديق الاقتراع، ورغم أنه من الممكن أن نشهد عودة الأحزاب الإسلامية في الانتخابات الليبية القادمة بعد حملات منظمة وأفكار معتدلة أكثر، غير أنه من الممكن أن تحدث تحولات في العالم العربي والإسلامي خلال العقد القادم وتتمثل بتقبّل المجتمعات للتوجهات السياسية الليبرالية على غرار ليبيا.

أما بالنسبة لليمن فنتائج الثورة فيه مؤقته حتى الآن، ولن تتضح الأمور إلا بعد سنتين، وعلى الأرجح أن العملية الانتخابية ستكون على أسس تكتلات قبلية على الأرجح، ولكن ربما تكون هناك مفاجآت أخرى فالغد لناظره قريب، أما الوضع في سورية فهو يمر بمرحلة ضبابية تشبه العقدة في المنشار؛ نتيجة عدم التقاء المصالح الدولية عند نقطة محددة، لكن المؤكد أن هذه العقدة سوف تزول وتستأنف عملية التأهيل رغم كل الصعوبات.

ولكن لن تسير الأمور بيسر وسهولة في مجتمعات يعد الدين أهم مكوناتها الثقافية، وتعتمد عليه معظم الخطابات الأيديولوجية للحصول على تقبّل المجتمع، وهنا من المهم أن تدرك المجتمعات الإسلامية أهمية تأهيل ذاتها للمراحل القادمة قبل أن يحفها خطر الانقراض الحضاري.