كانت الأحلام زاده حين يساهر نجمة في الأفق البعيد ، وينوح كغيمة شاردة من سمائها ، كان يرى التماعة الوطن في عينيه طهراً يانعاً ، ودفء خصوبة تغمر الكون فمتى يدفن غيابه ويعود إلى وطن يشبه الماء؟ بل هو الماء الذي يقتفي ذنوب الأرض ليمسحها ، قام كحطاب ليل يجمع ماتناثر من أيامه ولياليه، فقد طحنته الغربة وجمر الغياب والتباريح، أحس برجفة قلبه الذي لم يستطع صده عن الخفقان المهيب، سمع في المذياع صوتاً يتحرك ويدب حوله كحفيف شجرة عتيقة فتمتم بلحن شعبي سرى في عروقه كهديل العشب وعبق الفراديس المقمرة، تلبسته نشوة الهيام الروحي واستيقظ في داخله طعم الحياة، واستفاقت في صدره مواويل النخيل وحكايات القرى وأعراس الصحراء ومجاديف البحارة وبوح التسابيح وهمهمة الريح في السهول الخضراء، أضمر الرحيل سريعاً كنجمة الليل الأخيرة حين تهبط من مدارها ليركض إلى وطن يمارس الشروق من الجهات الأربع، احتدمت فوضى الروح المبتلة بالضوء والمشهد الابتهالي، أحس بأن الأرض تنحني لتقطر عطراً في عروق الشجر، فأرضه تجيد لغة الحياة الناصعة والشجية والذكاء المفرط، ففي مفاصلها يهجع التاريخ بنضارته وانثياله وغموضه السري وبسالته الراسخة، وفي بحاره تضج أشرعة التوق للعبور إلى مجاهيل الجواهر الكامنة في محابر البحر، وأعماقه المزهرة وأسراره المضاءة بشموع التحدي وينابيع الغبطة، وفي جباله المكسوة بزهو الأفلاك وقطعان الريح القريبة من السماء والتي تتمرأى في أحشائها أيائل الشموس وبروق الفصول وتنهيدة الضواري، وفي سهول وطنه يتمدد ثوب الزمان الأخضر لتورق الأغاني المهطعة على رؤوس الحصون، حين يعود الرعاة قبيل الغروب وقد ملأوا بالأناشيد حقائب أيامهم وبوصلة أفراحهم، وأكمام صباحاتهم المستطابة كدالية من الحب والخير والمعجزات، أجفلت مشاعره وهو يطل من نافذة الغربة على عالم ممعن في القسوة والفتك، وموغل في عقلانيته وذرائعيته وتدمير الملاذات الروحية والوجدان البشري، وتذكر وطنه وإنسانيته وبياضه الذي لا يمحى، ولا يجافي قيمة الحياة ورغائبها، ليصمد أمام صدوع الانهزام ومغالبة الارتطام الحضاري الكاسح، والمتشظي بكل قتامته وكارثيته الشرسة والسالبة لفطرة الإنسان ورجع حنينه واشتياقه ومخياله المتعالي، استرجع هواجسه وأحلامه ومراتع صباه، في منعرجات وأزقة ذلك الحي المزدان بالطفولة والذكريات ووجوه الأصدقاء، والحكايا الأزلية والصبح المذاب في عينيه كالمرايا، والمساءات المتشحة بالصحو و أطياف العصور، رفّت به الطائرة كالصقر المحموم، وحطت جسدها الواهن على أرض مكللة بالغار والشمس المعلقة، وأطلق صوته كعصفور عائد من الحقل البعيد حتى "الشمس أجمل في بلادي".