قبل أن تنفذ هذه الكلمات إليك، بين يديك أو تحت ناظريك، تمر الكلمة في دورة حياة تشبه دورة الحياة لملكة النحل أو دودة القز. تخضع الكلمة هنا دائماً لمراتب  ـ التحرير  ـ من سكرتيره إلى مديره وانتهاء برئيسه. وفي الغرب مثلما في الشرق (والجنوب الغربي) تخضع الكلمة دائماً للمساءلة: من النيويورك تايمز حتى محبوبتي بين يديك. وليسمح لي السادة الكرام من رؤساء التحرير، أينما كانوا، أن أداعبهم بالسؤال: من هو الذي أسماكم رؤساء التحرير طالما أن جذر ـ التحرير ـ اللغوي قادم إلينا من مفردة (الحرية)؟ لماذا يشتق اسمكم الوظيفي جذره من مفردة لغوية تخالف طبيعة المهنة؟ ولن أكذب الحقيقة أو أغمط الحق إن قلت إن تجربتي ـ هنا ـ طيف معقول من الحرية، ولست مبالغاً إن قلت إنني في بعض الأحيان أكتب لكم فكأنني أذهب مباشرة إلى ـ البقالة ـ لأكتب مقالي، ومباشرة، أيضاً على مساحتي في رفوف العرض الصحفي على مدخل البقالة. ولكن: ما هو الدرس الأول الذي يتلبسه الكاتب من تجربته الكتابية؟ الدرس الأول هو أن يتعلم الكاتب سقف الحرية المتاح الذي يضعه ـ الرقيب ـ سكرتيراً أو مديراً أو رئيساً أو مشرف رأي: تخيلوا كل هذه المناصب الرنانة وكلها من أجل ـ فلترة ـ الكلمة. والخطأ الجسيم الذي يقترفه كاتب ـ ما ـ على نفسه وعلى قرائه أن يتلبس كل هذه المناصب قبل أن يكتب ، لأنه في هذه الحالة لا يكتب للجمهور بل للمناصب الصحفية. أخطر أنواع الكتابة أن تعمل في الصحيفة وأن تكتب فيها ، لأن الكاتب سيتحول إلى كتلة من المحاذير الهائلة مع الزمن. جربت هذا لعامين أيام ولادة هذا العملاق ثم انسحبت من المطبخ بهدوء ، لأنني أحب الكتابة من بطن الشارع. ولو لم يكن من الحرية إلا كتابة هذا المقال ثم أجده منشوراً بين يديكم بكل ما فيه من ـ ردح ـ ضد المناصب الصحفية. ودعك من ـ الحرية ـ فلا يوجد بيننا كاتب بريء مثلما لا توجد أيضاً فكرة مطلقة. كلنا أسرى لمدارسنا مثلما نحن أسرى لوظائفنا وسنكذب إن حاولنا الفصل ما بين العقل والمعدة. هنا يتحول القارئ إلى وسيلة اكتساب للكاتب: تلك هي طبيعة المهنة.