ليس عدلاً أن نلوم بصلف أمواج الجماهير العربية والإسلامية الغاضبة على ردة فعلها العنيفة التي تلت نشر مقطع لفيلم (غبي) يسيء للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم). دون أن نشير (بحنق) بإصبع الاتهام والتعنيف إلى أصل (الفعل والفاعلين) اللذين أنتجا ردة الفعل الهستيرية لتلك الجماهير. فقد (مس الفعل) مقدساً عقدياً وروحياً. وقانون الحركة الفيزيائي الثالث لنيوتن "لكل فعل، ردة فعل، مساوية له في المقدار، ومعاكسة له في الاتجاه" يتفق مع الحدث، ولو في شكله العام. وهذا ليس تبريراً لحوادث قتل المعاهدين وتخريب المنشآت ونهبها وإحراقها، -وهو ما لم يفعله أو يأمر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع اليهود بالمدينة - بقدر ما هو عودة صغيرة لمنطق الأفعال وردودها. وعندما تحاول لغة السياسة الأميركية إقناعنا بأن مبدأ الحريات الذي تفاخر بكفالته وحمايته لأفراد مجتمعها في عقيدتها السياسية، هو ما يمنعها من التدخل السياسي، أوالأخلاقي، أوالإنساني، أوالأدبي، لمنع نشر أوتداول كل ما من شأنه المساس سلباً بعقائد وحريات الأمم الأخرى على اختلاف ثقافاتها، فإن ذلك يبدو منطقاً أخرق، لا يتواءم مع الوجه الحقيقي لمبادئ الحرية والحريات. ويبدو كسلوكٍ أحمقٍ يناقض أقوالها. فأحد أهم التطبيقات الرئيسية للحرية والحريات الإنسانية، هو (الالتزام) بحفظ حقوق الآخر، والإيمان المطلق بأن حريتي تتوقف عندما تبدأ حريات الآخرين. وهذا صلب مبدأ التعايش والقبول.
لقد سارعت السفارة الأميركية بالقاهرة بإصدار بيان التهدئة التالي: "إن احترام المعتقدات الدينية هو حجر الزاوية للديمقراطية الأميركية. ونحن نرفض بشدة أفعال من يسيئون استخدام الحق العالمي لحرية التعبير للإساءة للمعتقدات الدينية للآخرين". هذا التناقض بين أحقية تطبيق الفعل وتبريره يعكس حجم التضليل الذي تمارسه السياسة الأميركية الخارجية مع العرب، في ظل هرولة الجماهير العربية والإسلامية المقتولة بطغيان عواطفها دائماً، ويدير شوكة البوصلة ناحية السياسة (المرأة اللعوب). وأميركا ترغب في محاورة القوى السياسية الجديدة في العالم العربي الجديد على طريقتها، وتوجه رسالة صريحة للقوى السياسية داخل مصر تحديداً، فلطالما كانت مصر هي سنام الأمة العربية وواجهتها سياسياً وعسكرياً وثقافياً، ولتضرب أميركا عصافير كثيرةٍ جداً بحجرٍ واحدٍ فقط. وليس أدل على ذلك من سرعة الإعلان عن انتماء أفراد من (الطائفة القبطية) في المهجر (أميركا) كمتبنين لفيلم "براءة المسلمين" المسيء لرسولنا الكريم. هنا تكون أميركا قد وضعت صورتها سياسياً خارج المسؤولية (بطريقة ما) كأول العصافير، واختبرت قدرات الأنظمة العربية الجديدة بدول الربيع العربي في السيطرة على مقاليد الأمور كعصفور ثان، وصرخت بصوت عالٍ في وجه العنفوان (الإخواني) في مصر تحديداً، ومد التيار الإسلامي المتشدد في العالم العربي: (نحن ما زلنا هنا) أيها العصفور الثالث. ويتضح للمتتبع الفطن، أن أميركا رغبت (وعلى طريقتها) في الرد عملياً على تحركات الرئيس المصري الجديد محمد مرسي، وخُطبه الحماسية التي ميزت العهد الناصري وحاربته أميركا، وهي بذلك كمن يفرك أذن (الرئيس مرسي المتحمس) لتحد من جموح تصريحاته، وتعرقل تحركاته المستقبلية بتلويحها صراحة بورقة الأقباط المحتقنة داخل المسرح المصري وخارجه، وتسقط العصفور الرابع، في إعادة للتاريخ السياسي الأميركي مع القيادات المصرية (جمال عبدالناصر) في فترة الخمسينات والستينات الميلادية (يعني خد بالك يا مرسي). كما لا تنسى أميركا تقوية إحدى أهم عصيها القوية، المتمثلة في بعبع التطرف الديني في العالم العربي والإسلامي لتربح العصفور الخامس، وهو العصفور الذي تضمن من خلاله مكاناً أساسياً على طاولة اللعبة السياسية في المنطقة بشكل دائم ومؤثر، ولتجعله بذلك سيفاً مصلتاً، يؤرق القيادات العربية، ولتبقي على النزعة الدينية المتطرفة قوية بالقرب من أسوار العدو اللدود (الدب الروسي)، لتتمكن من توجيهه ناحيته سريعاً متى ما تطلب الأمر.
إذ ليس من مصلحتها القضاء تماماً على النزعات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط، فذلك سيشكل خطراً على الاستراتيجية التي تبرر وجودها بقبضة قوية على منابع الطاقة. عصافير كثيرة أوقعها الحجر الأميركي من على الشجرة، ومن بقي ممسكاً بالغصن حتماً هو الآن يترنح وبشدة. إن أميركا ذكية بما يكفي في اختيار التوقيت المناسب لتحركاتها، وهي تجيد اللعب بالنرد وخلط الأوراق على الطاولة العربية دون الحاجة إلى - نرجيلة لتعدل الدماغ - أميركا تفعل ذلك ببراعة التخطيط والحسابات (الإنشتاينية)، كما أنها تجيد اقتناص الفرص في أحلك الأزمات والصراعات، وتنجح دائماً في إقناعنا باختيار الوقوف على منصة الهمجية والغوغائية والدمويين القتلة، لترتسم الصور النمطية البشعة للوجه العربي والإسلامي في الذهنية العالمية. غير أننا نحن المسلمون، نرفض وبشدة أن يتطاول أحد ما على عقائد الأمم الأخرى، وتمقت شيمنا الإسلامية ذلك، بل إن ديننا الإسلامي يعاقب كل من يقدم على اقتراف ذلك. وبالمقابل فإننا لن نقبل تحت أية ذريعة التعرض بالإساءة لمعتقداتنا الدينية. أليست أميركا ذكية؟