عدم مراجعتنا كثيراً من اللوائح والأنظمة أوقعنا تحت بيروقراطيةٍ مترهلة، أصبحت أسيرةً لكثيرٍ من سلبيات "القبلية"، كالحمية الجاهلية والعنصرية التي عادت مشوَّهةً في ظاهرة "الواسطة"، مستندةً إلى قول الزميل/ "أبي الطيب الكذاذيبي": "إن المعارف في أهل النهى ذممُ"، وترجمته البدوية: "ذمةٍ ما تنفع الرفيق وش نبا بها؟" وأصلها الجرأة على شهادة الزور المنافية للذمة والأمانة!
ولم يعد خافياً تسرطن "الواو" في كثيرٍ من خلايانا الإدارية، بعد أن اعترفت هيئة مكافحة الفساد بظاهرة اكتساح جهة واحدة، أو أسرة بعينها، إدارة ما، أو قسماً هواء، إلى درجة توريث الوظائف من بعض الآباء لـ"أبعض" الأبناء!! ولكن من حسن الحظ أن هذه الظاهرة تأكل نفسها سريعاً؛ لوجود المنافسة الشرسة بين الزملاء في كل وقت؛ بحيث تبدو جهة العمل ـ في كل جيل ـ كالذبابة: في أحد جناحيها الداء، وفي الآخر الدواء!
أما أن تستأثر مدينة "عنيزة" بتقديم العدد الأكبر من أصحاب المعالي الوزراء، عبر أجيال دولتنا الحديثة منذ الوزير الأول للملك عبدالعزيز، الشيخ/ "عبدالله بن سليمان الحمدان"(1305هـ ـ 1385ه)؛ فذلك يدفعك للتساؤل الجاد عمَّا يميز هذه المدينة، التي هي أعرق مدن "قصيم الزمان"، وأشهرها منذ خمسمئة عامٍ على الأقل؟ كما يعيد قراءتك للسر الذي دفع الأديب الرحالة اللبناني الكبير/ "أمين الريحاني" ليطلق عليها لقب "باريس نجد"! فمن السذاجة أن يعزى ـ فقط ـ إلى أن أهلها كانوا متسامحين مع المدخنين، خلافاً لمدنٍ أخرى تحرم ذلك "المخزي" تحريماً لاهوادة فيه!
لقد كان الريحاني ـ والتاريخ يشهد له ـ يرمي إلى أكبر وأوسع من هذا المعنى؛ فكما أن "باريس" هي عاصمة النور والتنوير في النهضة الأوروبية، كذلك "عنيزة" التي تنطلق من وسط الشرق، وتفيض بالعقول على الجزيرة والخليج والهند وشرق آسيا، ثم الشام ومصر والحجاز، قبل العقيلات ومع العقيلات وإلى اليوم!
ولعل مايؤكد هذه النزعة التنويرية في العقلية الإدارية "العنيزاوية" ما قام به الوزير/ "ابن سليمان" ليقنع شريحة كبيرة من المعاصرين له بأهمية وسائل الاتصال ـ كالبرقية ـ ويثبت لهم أنها منجز بشري لاعلاقة للجن "اسم الله علينا" بتحريكه: حيث انتهز غياب مولانا السلطان ـ كما كان يطلق على الملك عبدالعزيز آنذاك ـ في الحجاز، وأجَّل صرف شرهاتهم (رواتبهم) شهرين حتى قالوا: "يا أيها الوزير مسنا وأهلنا الضر ورمضان على الأبواب"، فأجابهم بحسم: ليس أمامكم إلا الصبر حتى يعود مولانا بعد العيد! ولما استيأسوا وخلصوا نجياً استدرك: إلا إذا اقتنعتم بأن "البرقية" حلال؛ فسيأتيني الأمر السامي قبل أن تقوموا من مقامكم!!
فاستخاروا... ونفثوا على جهاز البرقية، و... عدَّوا "قريشاتهم" زين!!