المنطقة العربية الإسلامية تشهد حالياً تظاهرات يتخللها الكثير من العنف والتخريب، كما تتعرض المصالح الدبلوماسية الغربية للهجوم، ومواجهات إعلامية حادة بين بعض المسلمين والمسيحيين، وبين أنصار حرية التعبير المطلقة وبين من يعتقدون استحالة وجود هذه الحرية ولا لدى الغرب نفسه، والدليل هو موقفه ممن يشكك في المحرقة النازية لليهود (الهولوكست).

تجري هذه الأحداث في الربع الأخير من العام الميلادي 2012 وما أشبه اليوم بالبارحة، فقبل سبع سنوات في عام 2005 شهدنا فوضى مماثلة سببها الرسوم الكرتونية المسيئة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي نشرتها صحيفة (يولاندس بوستن) الدنماركية وتبعتها صحف أخرى في الدنمارك وأوروبا تضامناً مع الصحيفة وانتصاراً لحرية الرأي والتعبير بلا قيود. وتسبب كل ذلك آنذاك في اشتعال أزمة دبلوماسية على أعلى المستويات بين العالم الإسلامي والدنمارك وبعض دول أوروبا، فسُحب السفراء للتشاور، وتعرضت بعض السفارات الأوروبية لشغب المتظاهرين، وبرزت دعوات المقاطعة للمنتجات الدنماركية، وعاش العالم في أزمة لم تنفرج سريعاً رغم كل أصوات دعاة التسامح والسلام من الجانبين.

وقد نجح المسلمون يومها في إرسال رسالة مهمة وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خط أحمر، وأن أمة المليار الممتدة من جاكرتا إلى مراكش، بل والتي تعيش جالياتها بالملايين في قلب العالم الغربي، لن تسكت على إهانة لنبيها وإمام أمتها.

لكن ماذا حصل بعد أن هدأت ثورة الغضب تلك؟ لا شيء! لم نشاهد مبادرات على صعيد الأفراد أو المؤسسات أو الدول العربية والإسلامية للتعريف بنبي الهداية ولا بالإسلام ولا بالحضارة العربية الإسلامية. لم نشاهد لا كتباً ولا أفلاماً سينمائية ولا برامج وثائقية ولا مناسبات ثقافية تنظمها السفارات الإسلامية في الخارج، التي ما زالت تعتقد أن دورها دور موظف التشريفات لكبار الشخصيات: استقبل وودع، حتى المجموعات الطلابية انشغلت عن هذا الأمر. لم يتحرك أحد ولم يبادر بشيء، ثم كان هذا الفيلم الأمريكي الأخير المسيء، فإذا بنا نستيقظ من جديد، ونتذكر بأن علينا نصرة نبينا!

كالعادة، مواقفنا خلال المائة عام الماضية تجاه كل اعتداء سياسي أو ثقافي أو ديني أو عسكري لم تكن سوى ردات فعل.. موتورة غالباً، فخرجت المظاهرات التي بدل أن توصل رسالتها للسفارات الأمريكية وللعالم بوضوح، لاسيما في دول ما يسمى الربيع العربي، وإذا بها تتحول إلى ممارسات بلطجية تُحرق فيها الأعلام وتكسر النوافذ وتقذف السفارات المحصنة بالصواريخ ويقتل السفراء. وهي تصرفات لطخت كثيراً صورة العرب والمسلمين وصورة الإسلام، وجعلت التركيز على الهجوم وجريمة القتل أكثر مما هو على الجريمة الأصلية وهي إهانة مقدسات المسلمين ورموزهم. وبالرغم من أنه قد لا يكون مقتل السفير الأمريكي في ليبيا (كريس ستيفنز)كما يعتقد البعض بالضرورة مرتبطاً بهذا الفيلم، إلا أن الحابل قد اختلط بالنابل، وها هو الشعب الأمريكي يجد أن سفير بلاده قد قتل بسبب فيلم أنتجه أحمق لا علاقة له بالحكومة الأمريكية ولا بعموم الشعب الأمريكي، وبالطبع فجريمة القتل في نظره أشنع بكثير من جريمة الإساءة لنبي ديانة ما.

الطريف أن دعوات المقاطعة الاقتصادية التي ظهرت ضد الدنمارك بشدة لم نسمع عنها كثيراً فيما يتعلق بأمريكا، وذلك لخيبتنا الكبيرة، فنحن معتمدون عليها وعلى منتجاتها بشكل كلي من الإبرة إلى الصاروخ! فلا نتحدث هنا عن مقاطعة الزبدة ومنتجات الألبان بأنواعها، وإنما عن مقاطعة للسيارات والكمبيوترات والتعليم والكتب والمعدات وحتى أجهزة الآيفون والآيباد. ولعله من هنا يمكن أن نفهم أسباب لجوئنا للعنف، لأننا مهزومون حضارياً ومتأخرون علمياً وبالتالي فهذا الإحساس بالهزيمة يقودنا للتصرف كالمجانين، لأننا لا نملك ما نخسره، فنحن إذ نضرب السفارات ونحرق الأعلام فنحن نضرب تخلفنا ونحرق جهلنا الذي نزدريه.

لكن ألا يحق لنا أن نهب غضباً لديننا في زمن نشعر فيه أحياناً بأننا تحولنا كأمة إلى ما يشبه ممسحة الأقدام التي يدوسها الكل دون رادع أو خوف بسبب حالة الضعف والتردي التي نعيشها على كافة الأصعدة؟

بلى يحق لنا، وأنا مع المظاهرات المليونية أمام السفارات في الدول التي تسمح بذلك، شرط أن تكون منظمة وواعية ولها رسالة محددة تسلمها للسفراء، ومع القيام برفع دعاوى قضائية في كل الولايات الأمريكية ضد منتج الفيلم ومموليه ومخرجه، ورفع دعاوى كذلك على موقع اليوتيوب لرفضه حذف الفيلم، ومع تنظيم ندوات في السفارات العربية والإسلامية في أمريكا سواء للمسؤولين أو الجمهور لتوضيح سبب الغضبة الإسلامية، وكيف يمكن أن تؤثر هكذا ممارسات غير مسؤولة من مواطنين أمريكيين على العلاقات بين أمريكا والعالم الإسلامي، والتي بالكاد استطاع الرئيس باراك أوباما ترميم شيء منها بعد أن عاث فيها سلفه فساداً، لاسيما ونحن في سنة الانتخابات الأمريكية.

العالم لا يحترم إلا من يحترم نفسه، ونحن كمسلمين توقفنا عن احترام أنفسنا منذ أمد بعيد، منذ أن تخلينا عن كل جميل من ديننا وحضارتنا واستبقينا على كل قبيح من عاداتنا، فكانت النتيجة تخلفا حضاريا مريعا، ثم حين أردنا أن ننهض ونلحق بالركب ..تسابقنا لتسول هوية من خارج الزمان والمكان، فما عدنا نعرف من نحن ولا إلى أين نسير؟

فالنصرة الحقيقية لسيد البشر وخاتم النبيين تكون بإحياء سنته في قلوبنا وتطبيق شريعة ربه في أرضنا، بنشر العدل في الدنيا التي امتلأت ظلماً وجوراً، وبإعمار الأرض وصناعة الحضارة، وقتها نستطيع أن نباهي العالم بأننا أتباع محمد – صلى الله عليه وسلم- صُناع التاريخ ومهندسو الحضارات، ويومها لن يؤثر فينا حاقد يسعى لتشويه صورة ديننا وإهانة رموزنا، لأننا سنشعر آنذاك بأننا عمالقة وبأنه ليس سوى حشرة لسنا معنيين حتى بالانحناء للنظر إليها.