ولكن لم كل هذا الهلع من اختلاف الأجيال؟ متى نسلِّم بأن الحياة مسؤولية فردية و{كل نفس بما كسبت رهينة}؟ وأن صراع الأجيال حتمية تاريخية لا مفر منها ولكنها تصبح كارثة الكوارث حين تنتقل إلى تشويه عميق للقيم والأخلاق، يتجلى فيما أصبح معروفاً بـ"المتاجرة بدماء القتلى"؛ حيث وجدنا أنفسنا في مزادٍ تهون عنده مهايطات مزاين الإبل... "ماكنتوش" ولا صرتوش! تنتهك فيه "السلوم القبلية" المحترمة في وضح النهار، وعلى عينك ياتاريخ أجدادنا الفرسان! وتذكر ـ مثلاً شروداً ـ قصة "عريس الطائف"، قبل شهرين، وهو رجلٌ قتل صديقه وتم تأجيل القصاص إلى أن يبلغ ابن القتيل ـ المولود للتو ـ سن الثامنة عشرة؛ فلما بلغها أصرَّ على قتل القاتل ـ الذي ظل مسجوناً كل هذه المدة ـ ورفض التنازل رغم شفاعات ألوف الأخيار الذين توافدوا عليه من جميع مناطق المملكة وقبائلها! وتخيل الموقف الباكي بدموع قهر الرجال: ألوف من شيوخ قبائل وأعيان وأصحاب نخوة يرجعون خائبين منكسرين، ولو كانوا في زمن "جد الفتى" ما احتاج الأمر إلى أكثر من شخص واحدٍ يحل ضيفاً على صاحب الحق ـ أو شيخ قبيلته ـ ويرفض أن يشرب "فنجال" قهوته إلا بما جاء من أجله؛ فلا يملك "المُضيف" إلا أن يحقق مراده ليشرب "الفنجال"، والعار والخزي الأبدي عليه وعلى قبيلته لو تلكأ في ذلك أو ساوم! بل إن القاتل نفسه في مثل هذه الحال يدخل على صاحب الحق حاملاً كفنه بيده وهو يعرف أن "السلوم القبلية" تجبر صاحب الحق على العفو، وتنقذ رقبة القاتل من كل الورثة! ولا تمنع هذه السلوم (القوانين) الصارمة من الصلح بين الطرفين بمقابل مادي أو معنوي أو بهما معاً؛ كإجلاء القاتل من المنطقة، بعد أن يدفع ديةً مرضية؛ لكي لا يراه أصحاب الثأر احتراماً لمشاعرهم ودحراً لأي شيطان!
ومن الجهة الأخرى تخيل الموقف الضاحك حتى استلقى "شر البلية" على قفاه: فتى ولد يتيماً بفعل فاعلٍ لم يحسب له ولا لأسرته حساباً وهو يغدر بوالده، تتهافت عليه الألوف ليتنازل بكل بساطة وينسى عذاب كل هذه السنين تقديراً لخواطر جاءته من أعماق التاريخ! أي "فنجال" يمكنه أن يطفئ حرقته؟ والله لو كان "موكا" بالكريمة وعلى صوت "الحلا كله"!
وبين الجهتين تخيل رجلاً يقبع خلف القضبان عمراً حافلاً؛ كان حقه أن يعفى عنه أو يقتل مرةً واحدةً، وإذا به يقتل كل لحظةٍ على مدى ثمانية عشر عاماً!
من يجبر قهر الرجال؟ ويشفي غليل صاحب الحق؟ وينصف الإنسان حتى وهو مذنب؟ هل تجيب مدونة القضاء التي ستصدر قريباً حسب تصريحات معالي وزير العدل؟