كنت مع جمع من الأصدقاء وكان محور حديثنا عن فيلم "براءة المسلمين" والذي أساء لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، والواقع أن تداعيات الفيلم وما أثاره من صخب وعنف عاطفي فائض هي المحاور الرئيسة للكلام، وما صحب ذلك من عرض لانعكاسات ذلك على مواقف أميركا من الربيع العربي بحسبان أن أكثر الأضرار التي طالت الولايات المتحدة الأميركية جاءت من الدول العربية، التي للتو سلخت جلدها وأسقطت جبابرتها على نحو قد يدفع دولة مثل أميركا لإعادة التفكير في الترحيب والدعم لهذه التحولات التي عادت عليها بالمضرة، بقدر جعل السيدة هيلاري كلينتون تستهجن ما حدث من عنف تجاه السفارات والقنصليات الأميركية وتتساءل كيف قضت دول الربيع العربي على الديكتاتوريين وأسلمت الأمر للغوغائيين. والأمر في الواقع خرج عن حده وزاد عن ضرورة الاحتجاج، وصارت الانفعالات وردود الفعل تتوالى تباعاً مثل حبات الدومينو، وتتفاقم الأضرار التي تسيء للموجودات والممتلكات الوطنية والخاصة، مثل أن يعمد المتظاهرون إلى حرق وتكسير محلات أو مطاعم بماركات أميركية مع أن مالكيها من أهل البلد.
وقد علق أحد الحضور بكلام يرى من خلاله أن هذه الهبة العاطفية هي التي روجت لفيلم "يوتيوب" كان يمكن له أن يدخل دائرة النسيان والإهمال عوضاً عن هذا الترويج المجاني والشهرة العريضة التي تحققت للفيلم ولمخرجه الذي يهوى الشهرة ويبحث عن الإثارة بحسب التقرير الذي نشرته جريدة الديلي جراف البريطانية، وذكرت فيه أن مخرج الفيلم سجين سابق تحت المراقبة وقد يعود للسجن. وتذكر الصحيفة أن مخرج الفيلم الذي أثار غضب المسلمين وأدى إلى اضطرابات عنيفة يمكن أن يعاد إلى السجن بسبب انتهاكه شروط إطلاق سراحه المتمثلة في توزيع الفيلم، وأضافت الصحيفة أن مخرج الفيلم نقولا باسيلي البالغ من العمر 55 عاماً قد أدين بحيازة المخدرات والاحتيال في وثائق بنكية، ومضت الصحيفة تقول: "نقولا من أقباط مصر ويعتقد أنه اشتغل على السيناريو وهو في أحد سجون كاليفورنيا عندما كان يقضي مدة محكوميته".
وقالت الديلي جراف إن إنتاج الفيلم قد بدأ في يونيو الماضي بعد أسابيع من إطلاق سراح نقولا المشروط مضيفة أنه يخضع للمراقبة بعدما قضى سنة في السجن من عقوبته البالغة 21 شهرا بسبب تهمة الاحتيال، وقد تضمن الحكم عليه منعه من استخدام الإنترنت وأجهزة الحاسوب والبريد الشخصي من دون موافقة الموظف المسؤول عن إجراءات المراقبة، وذلك لمدة خمس سنوات، لكن نقولا كما تذكر الجريدة قام في يوليو الماضي بانتحال شخصية جديدة تحت اسم "سام باسيل" وقام بتحميل "يوتيوب" مقاطع ترويجية قصيرة من الفيلم مدتها 14 دقيقة وعليه فقد فتحت دائرة المراقبة في كاليفورنيا تحقيقاً في شأن ما إذا كان نيقولا قد انتهك شروط إطلاق سراحه، وقد وصفه أحد أصدقائه قائلاً: "إن نيقولا فنان في النصب والاحتيال يمكن له أن يغش أي أحد ويمكن له أن يقوم بأي شيء من أجل الحصول على المال أو السعي للشهرة".
وكان أكثر الآراء لفتاً للنظر والتأمل في جلستنا تلك هو الرأي الذي قال به أحد الأصدقاء، وهو أنه يشم في موضوع الفيلم رائحة منتنة لمؤامرة تولتها أجهزة استخباراتيه؟! قلنا له كيف؟ قال: إن النظام السوري هو أكثر المستفيدين من عاصفة هذا الفيلم، فقد تم ترحيل أحداث سورية في الداخل من كونها تعتلي صدارة الأخبار إلى جعلها خبراً اعتيادياً وثانوياً، حيث تصدر خبر الفيلم وانعكاساته في الشارع العربي ليصبح الخبر الأول في صدارة النشرات، وينتظر أن يستمر في الصدارة بفعل الأثر والتوتر الذي خلفه هذا الفيلم على العلاقات العربية الأميركية، وقد يمتد أثره ليخلق فجوة بين الأقباط والمسيحيين العرب وبين العرب المسلمين الذين قد يعمد غلاتهم إلى تحميل المسيحيين العرب وزر هذا الفيلم وسوءاته، مع أن الأصل "ألا تزر وازرة وزر أخرى".. وهكذا استطرد صديقنا في تحليله للأمر من منظور أن مخرج الفيلم نقولا وهو من أصل عربي ميال للشهرة ومحب للمال ولديه سوابق إجرامية قادته إلى السجن، ولأن الطواقم الاستخباراتية لدول الممانعة منثورة في الخارج عبر قنصليات وسفارات هذه الدول ولهم سوابق معروفة في التجسس على المعارضين وتهديدهم أو تصفيتهم بقدر يجعل صديقنا يجزم بأن نيقولا باسيل كان هو الأرضية المناسبة لكسبه وإغرائه بالمال الذي يحبه وتشجيعه على استكمال الفيلم وحشوه بالمغالطات والإسفاف والشتائم ثم بثه على "يوتيوب" بحيث تستكمل أطقم الاستخبارات شحن النفوس وبث التعليقات وإشهار الفيلم وترويجه، ليخلق ردات الفعل المتوقعة، وذلك استثماراً للعاطفة العربية والدينية الجياشة وكذلك استثمارالكراهية المتجذرة لكل ما هو أميركي بما يكفل ردود فعل أدهى وأمر، خاصة أن حساب رد الفعل مقدور عليه بحسبان ردات الفعل السابقة مع الدنمارك وغيرها فما بالك والأمر صادر من الشيطان الأكبر!!
وهكذا فقد نجحت ـ برأي صديقي ـ أجهزة الاستخبارات العربية والمساندة لها في تهييج الشارع العربي وصرف الأنظار ولو إلى حين عما يجري من ذبح وسفك للدماء في الداخل السوري، ويزيد صديقي في تحليله المعقول بقوله: "إن هذه الأحداث المتصاعدة وردود الفعل العنيفة تجاه كل ماهو أميركي تبعث برسالة قلقة للولايات المتحدة تجعلها تتحفظ أو تكبح جماحها واندفاعها المؤيد لثورات الربيع العربي إذا كانت ستخلف هذا القدر من الغوغائية، وتأمل سورية ودعم هذه التظاهرات المحتقنة ربما يكون سبباً مقنعاً لأميركا في صرف النظر عن الانحياز لتغيير النظام السوري والاصطفاف إلى جانب حلف التأييد الروسي الإيراني".
الواقع أنني خرجت من ذلك المجلس وذلك الحوار مشوش الذهن، وكنت خلال طريق عودتي للمنزل أسأل نفسي: هل يمكن أن تكون دمشق وإلى جانبها موسكو وطهران خلف تصدير هذا الفيلم؟! وهل تدخل الأجهزة الاستخباراتية هو الذي أسهم في تغيير سيناريو الفيلم المعد سلفا وتحويره وحشوه بالكثير من الشتائم والبذاءات؟! وهل كانت هذه الأجهزة هي السبب في تغيير الاتفاق المسبق والنص الثابت والمونتاج الذي تم على الحوار بقدر أثار غضب واعتراض بعض ممثلي الفيلم وعزمهم على رفع دعوى ضد مخرج ومنتج الفيلم؟
فكرة صديقي فيها شيء من المنطق بالنظر إلى الأثر السلبي الذي تركه الفيلم على العلاقة الأميركية العربية الإسلامية، والأثر الذي انعكس سلباً على الثورة السورية، لكن الأيام القادمة كفيلة بإظهار الحقائق وكشف المستور.