قراءة الأحداث التي تجري والصراع المحتدم بين الشرق والغرب يحتاج إلى رؤية شمولية تنظر للأحداث على أنها حلقات "متصلة" وغير منفصلة، فإن حصلت التجزئة بالقراءة لم نتمكن من فهم صورة ما يجري هنا أو هناك.
يستخدم الغرب في إعلامه التأثير على العقول والأفكار بصورة احترافية، يتعامل معها الكثير من خلال النظر إلى ظاهر الأمر وقشوره، ولكن هذا الظاهر لا يفهم حتى يفهم ما يجري في الخفاء، عندها سوف نعرف كيف يتحكم الغرب بـ"سيكولوجية" الوعي الجماهيري وتوجيهها لتحقيق مزيد من النفوذ وترتيب الخطط المستقبلية، وتهيئة الوعي العام لها، ودراسة ردود الأفعال التي من خلالها يرشح منهج على منهج في طريقة التعامل أو تمرير المشاريع والاستراتيجيات البعيدة.
لقد تعلمنا من أميركا وحلفائها في السنوات الثلاثين الماضية أنها محترفة في خلق الذارئع لتدخلاتها في كل شأن، فإن لم تكن صانعة للأحداث فهي مستثمرة لها بشكل متفرد، فهي قد غزت العراق بعد إيجاد الذرائع لذلك، وغزت أفغانستان بعد أن أوجدت الذارئع، وها هي الآن تريد مزيداً من المساومة السياسية والاقتصادية في ليبيا ومصر والسودان بعد أن أطلقت بالون الاختبار الذي حققت من خلاله ما تريد من نفوذ واختراق.
إننا للأسف لم نتعظ من تكرار الدروس مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، فالصورة الإعلامية، والإثارة النفسية للخصم، ومحاولة توجيه الشعور أمر لم يعد خافياً، وقد رأينا كيف استطاعت أميركا من خلال تسريب لقطات بشعة في سجن أبو غريب أن تجر إلى العراق مئات من المقاتلين العرب والذين كانت تستهدفهم بالإثارة، فهي تلعب على العاطفة الدينية والإنسانية لتحقيق المكاسب السياسية والعسكرية والاقتصادية، فإن واجهت أولي الفهم والرشاد فإن كل مخططاتها سوف تبوء بالكساد والفساد، فإن وقعت المخططات على أمة ميتة ومغيبة في وعيها فلسوف تنجح مخططاتها ومراميها وهي ومن وراءها من الحلفاء الذين يريدون تقاسم غنائم المرحلة في منطقة العالم الإسلامي.
وللأسف الشديد فإن كل حدث من هذه الأحداث يواجه بردة فعل عنيفة ينتج أضعاف المشكلات الأصلية، ثم يأتي من يحاول عن قصد أو من غير قصد إيهام الناس بأن ما جرى قد أدخل آلافاً إلى الإسلام من خلال تصريحات خالية من الحد الأدنى من المصداقية والعلمية، فيغري الناس بمزيد من التصرفات الهوجاء التي تسيئ أكثر مما تحل الإشكالات.
إن المرحلة المقبلة مرشحة أكثر لإحداث مزيد من الصراع الحضاري من خلال استثارة النكاية بالمقدسات الإسلامية، والهدف من ذلك إعادة التوازن السكاني والاجتماعي للحياة الغربية في ظل تزايد الوجود الإسلامي في الغرب والذي يهدد الغرب بـ(الفناء الحضاري)، فلقد فتح الغرب أبوابه للهجرة العربية والإسلامية من منطلقات الحرية والعدالة والديمقراطية، وواجه في ذلك اختلالاً سكانياً يفضي إلى قلب المعادلة الحضارية، وليكون فتحاً ناعماً للمسلمين في ديار الغرب بلا حروب، الأمر الذي أقلق مبشريهم وساستهم الذين يرون في هذا غزواً مكشوفاً، فكان أن كان من ضمن تغيير الأنماط السياسية في منطقة الشرق الأوسط خلق البيئة الجاذبة لهؤلاء، وإنهاء الذرائع التي يتذرع من خلالها المهاجرون إلى الغرب، وقفل كل الأبواب أمام الهجرة العربية والإسلامية، حتى يحفظوا على أنفسهم خصائصهم الحضارية بعيداً عن الغزاة الذين تكاثروا في وقت شيخوخة مجتمعاتهم وفقدانهم لأسرهم النووية التي هي أصل التشكل الاجتماعي، ولو أخذنا مثالاً على ذلك سنجد أن معدل النمو والزيادة الطبيعية في فرنسا 1.8 بينما نجد معدل النمو الطبيعي للمسلمين فيها 8.8 وفي جنوب فرنسا وهي أكثر الأماكن ازدحاماً بالكنائس فإن المساجد فيها الآن أكثر من عدد الكنائس و30 % من الأطفال من 20 سنة فأقل هم من المسلمين، وقد وصل هذا الرقم في بعض المدن الكبرى إلى 45 %، وعلى هذا فإنه سيكون واحدا من 5 فرنسيين مسلماً في عام 2027.
هذا النموذج الواحد مؤشر على الوضع العام في أوروبا والعالم الغربي تجاه الموت للحضارة الأم واستبدالها بحضارة مهاجرة، الأمر الذي لن يقف أمامه الأوروبيون مكتوفي الأيدي، ولا شك أن إشعال فتيل الصراع الحضاري هو أكبر مبرر لإعادة الأمور إلى نصابها.
إن هذا الأمر يحتاج منا أن نستحكم على ردود أفعالنا ليس فقط من باب قطع الطريق على هؤلاء ومراميهم، بل وتقديم الصورة العاقلة الأخلاقية للأمة الإسلامية في التعامل مع أزماتها وعدم إصلاحها الأخطاء بأخطاء أشد، وعدم مواجهة العنف والتطرف بعنف وتطرف مضاد، فإن ردود الأفعال السيئة ترسخ الصورة النمطية التي يريدون ترسيخها فعلاً عن العرب والمسلمين، وأن ما يشيعونه عنهم وعن عقائدهم صحيح حين نقدم الإسلام بصورة شوهاء، ونقدم المسلمين بأنهم متعطشون للدماء، أو خائنون للعهود والمواثيق أو أنهم تسيرهم العواطف والغوغاء، ثم يعمل الإعلام على تضخيم الأخطاء وترسيخها في الوعي العالمي فيتقدمون إلى الأمام خطوات لتحقيق مخططاتهم الماكرة على حساب مقدساتنا وديننا ووعينا وعواطفنا وأخلاقنا.
إن هذا لا يعني السكوت عن ممارساتهم الدنيئة وخاصة حين يمس أفضل البشر عليه الصلاة والسلام، وإنما الحكمة تقتضي أن يفعل ذلك من خلال قواعد السياسة العالمية التي طالبنا فيها مراراً وهي تجريم الإساءة للمقدسات من خلال قانون دولي ملزم للجميع كما استطاع اليهود استخراج مثل هذا القانون وخاصة في موضوع معاداة السامية وغيرها.