يحدث أحيانا أن تتحول طاقة الإبداع داخل المبدع إلى طاقة تدميرية تشوه نفسيته، فيصبح عاهة كبيرة غير قابلة للعلاج، فإما أن يمارس المبدع مقاومة عنيفة للحفاظ على قدراته الإبداعية في حدودها الدنيا، وفي هذه الحالة سيتم اختصار عطائه بصورة كبيرة نتيجة استنفاد الطاقة في صنع توازنات داخلية ومقاومات هدفها الأساسي هو الحفاظ على الإحساس بمساحة من الحرية ولو موهومة، وإما ـ من الاحتمالات الواردة أيضا ـ أن يهرب المبدع إلى داخل نفسه متخليا عن كل ما يميزه كمبدع، أو بمعنى آخر يمكن أن يستقيل المبدع من هذا الصراع كله منطويا على ذاته يلعق جروحه بذات منكسرة غير قادرة على النهوض مرة أخرى.
الاحتمال الأخير يفتح بوابة لتشخيص حالة ثقافية يبدو – للفاجعة – أنها عامة وغير مقتصرة على جموع المبدعين المنهزمين داخل ذواتهم.
فكيف يمكن أن تنضج أمة مع وجود هذا الحصار المحكم على تجاربها من خلال مبدعين هذه حالاتهم؟ ما الذي يمكن أن يصنعه الفرد صباح كل يوم وقد تولدت لديه طاقة كبيرة للحياة يعرف يقينا أنه لا يملك حق التصرف فيها؟ وهو ما يدعوه للانفصال التدريجي عنها وتركها في حالة عشوائية، وغالبا ما تتحول هذه الطاقة مع عدم إمكان تفريغها بصورة صحية خلاقة إلى طاقة انفصال عن العالم، وتأكيد حالة انعدام الإرادة واستقلالية التفكير اللتين يعانيان منهما معظم الشعب العربي، نتيجة فترات طويلة من القمع والتشيؤ والاستبداد، ولكن يبدو أن الاستبداد الفكري هو الأكثر تأثيرا، وهو الذي حال دون أن يكون لناـ كأمة ـ حضور إبداعي في المحفل العالمي على جميع الصعد والمسارات، فبتنا على الهامش، عالة على الأمم والحضارات.
ويكون الأمر مثيرا لشيء من الدهشة والتعجب، حين ينساق نفر من المبدعين – أو كما يفترض – للوقوع في فخاخ اللغو والإثارة السطحية والأنا المتورمة، التي لا ينجو منها إلا من أوتي نصيبا من سلامة الطوية، ورجاحة التفكير على نحو ما تصف الكاتبة ليلى الأحيدب حين تقول: "المبدع الحقيقي يتأذى من الصراع، يميل للتأمل ورسم الصورة بحكمة الصمت لا بثرثرة الشجارات العابرة، المبدع الحقيقي لا يستنفذ طاقته في تحريك البرك الآسنة برشق الأحجار، لا يتورط في معارك تقتل بياضه، ولايشغل ذاته المبدعة بمكائد الآخرين ونوايا المتربصين. المبدع متأمل مع صفوة من المتأملين، لا يخوض مع الخائضين إلا بالقدر الذي يبني فيه وعيا أو يسمو من خلاله بقيمة".
أخيرا، أستعيد هنا ما قاله مبدع الرواية العظيمة "الأم" مكسيم غوركي: "رحابة المراقبة، وغنى التجربة الحياتية تسلح الفنان بالقوة التي تحول علاقاته الخاصة وذاتيته إلى الحقيقة".