أثار تقرير صادر عن "سيتي جروب" مؤخرا حول استهلاك النفط في المملكة جدلا واسعا نظرا لما أورده التقرير من احتمالية أن تتحول المملكة إلى دولة مستوردة للنفط بحلول عام 2030 في حال استمرت معدلات الاستهلاك المرتفعة للنفط في المملكة داخليا على نمطها. وهو أمر لا يطرح للمرة الأولى وإن كان هذا التقرير ذهب حدا بعيدا في التنبؤ بأن تتحول المملكة (أكبر مصدر للنفط في العالم) إلى دولة مستوردة له. لقد سبق هذا التقرير عدة تقارير أخرى ربما أشهرها تقرير "شاثام هاوس" الذي تحدث عن نسبة الاستهلاك المرتفعة للنفط داخليا في المملكة، وبالأخص في عملية توليد الكهرباء وتحلية المياه، حيث إن استهلاك المملكة الداخلي بات يفوق استهلاك دولة صناعية كبيرة كألمانيا التي يشكل عدد سكانها 3 أضعاف سكان المملكة وحجم اقتصادها أكبر 5 مرات. لا شك أن النفط في المملكة في بؤرة الاهتمام العالمي، وقبل عقد أو يزيد كانت أغلب التقارير حوله تتعلق بنقد حقيقة كمية المخزون المعلن، حيث صدرت عدة تقارير تشكك في احتياطات النفط المعلنة للمملكة والتي تعد الأكبر في العالم.
تقرير "سيتي جروب" مبالغ فيه، ويبنى على فرضية استمرار أنماط الاستهلاك الداخلي للنفط وارتفاعها. الصديق والصحفي الاقتصادي المتخصص في شؤون النفط وائل مهدي انتقد هذا التقرير والتفاعل الإعلامي معه وطرح عدة نقاط في هذا الصدد، فارتفاع الاستهلاك كما يرى مرتبط أيضا بمسألة النمو الاقتصادي وارتفاع الطلب، ومن ثم فالمعضلة لا تتعلق بتخفيف الاستهلاك وإنما ترشيده والتوجه إلى بدائل أخرى. وعلى سبيل المثال فالمملكة أعلنت أنها ستقوم باستثمار ما يقارب من 100 مليار دولار خلال العقدين القادمين في مجال الطاقة الشمسية وما هو قد يوفر بديلا نظيفا لعملية توليد الكهرباء والطاقة الآخذة في الازدياد. كما أنه وبخلاف ما ورد في تقرير "سيتي جروب" فإن أرقام هيئة تنظيم الكهرباء تشير إلى أن المملكة سوف تستهلك 30% فقط من إنتاجها في توليد الطاقة بحلول عام 2030 وقيام محطات الكهرباء اليوم بتحويل دوراتها من بسيطة إلى مركبة سيعني توفير 40% من استهلاك الوقود وتحريره للتصدير. ويقابل ارتفاع الطلب أيضا ارتفاع في الإنتاج، فدخول مشاريع الغاز الجديدة كمشروع كران وحصبة والعربية بكامل إنتاجها خلال السنوات القادمة سيعني زيادة 2.5 مليار قدم مكعب. كما يورد وائل تقريرا لشركة "بيكر هيوز" يشير إلى أن المملكة قد تصبح خامس أكبر دولة لديها احتياطات من الغاز الصخري بحدود 645 ترليون متر مكعب، هذا عدا عن التقديرات المتعلقة بوجود مصادر جديدة للنفط سواء في البحر الأحمر أو الاحتياطات من النفط والغاز في الطبقات الصخرية في مناطق شمال المملكة. هذه النقطة تحديدا تشكل الوجه الآخر لموضوع النفط، فالمعضلة ليست في زيادة استهلاك النفط، بل على العكس تماما هي في ثورة إنتاج النفط عالميا. فعلى العكس من التوقعات العالمية السابقة بخصوص وصول إنتاج النفط عالميا إلى ذروته (oil peak) يكشف عدد من الدراسات الجديدة أن نسبة نمو واكتشاف حقول جديدة للنفط والغاز آخذة في الازدياد، يرافق ذلك تطور التقنية التي أتاحت الوصول إلى مصادر نفط وغاز غير تقليدية كما في الحقول الواقعة في أعماق المحيطات (deep offshore) أو الطبقات الصخرية (shale oil and gas).
في يونيو 2012 قام الباحث ليوناردو ماجوري (Leonardo Maugeri) من مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية بكلية كندي بجامعة هارفرد بتقديم دراسة رائدة بعنوان "النفط: الثورة القادمة" (Oil: The Next Revolution) تكشف أنه وعلى العكس من الانطباع السائد فإن قدرة إنتاج النفط في العالم تنمو بصورة متزايدة قد تتعدى قدرة الاستهلاك. يقوم هذا التقرير بدراسة كل مشاريع حقول النفط والغاز حول العالم، كل حقل على حدة في كل دولة، واحتساب ما ستضيفه هذه المشاريع من براميل نفط للإنتاج العالمي اليومي بحسب ما أعلنته وما تهدف إليه تلك المشاريع، ومن ثم فبحسب الأرقام فإن السوق العالمي للنفط سيشهد زيادة في الإنتاج بمقدار 49 مليون برميل يوميا بحلول عام 2020، وهو ما يعادل نصف الاستهلاك العالمي اليومي من النفط حاليا والبالغ 93 مليون برميل يوميا. وتكشف الدراسة أنه بعد احتساب نسبة المخاطرة في المشاريع ونسبة النضوب في الحقول القائمة فإنه من المتوقع أن يصل صافي ما تتم إضافته من إنتاج للنفط في السوق العالمية حوالي 17.6 مليون برميل يوميا، وبالتالي ترتفع قدرة إنتاج النفط عالميا بحلول 2020 إلى 110.6 ملايين برميل يوميا.
ما يعكسه هذا الأمر ليس التخوف من ارتفاع الاستهلاك وإنما من ارتفاع الإنتاج وانعكاسات هذا الأمر، ومنها انعكاسه السياسي كانخفاض هامش المناورة والقدرة الإنتاجية لنفط المملكة (swing capacity)، فزيادة الإنتاج ستعني أن الشرق الأوسط والمملكة لن يصبحا مركز الثقل العالمي فيما يخص النفط وإنما مجرد لاعب كبير آخر، وهذا يحد من قوة المملكة على المسرح العالمي ويطرح أمامها تحديات كبيرة خاصة في حال تمكنت الولايات المتحدة والغرب من الحصول على استقلالية كبيرة من نفط الشرق الأوسط (وهو موضوع طرحه كاتب هذه السطور في مقال بعنوان: نهاية النفط السعودي؟ "الوطن" بتاريخ 27 /5 /2012).
من جهة أخرى فإن أحد الانعكاسات الاقتصادية قد يكون انخفاض أسعار النفط، وهو أمر أشارت إليه الدراسة أعلاه، وهذا سيشكل تحديا آخر أمام المملكة على المدى الطويل كوننا نعتمد على النفط الذي يشكل حوالي 80% من دخل الدولة. وجود احتياطات مالية كبيرة لدى الدولة (بحدود 500 مليار دولار) ليس ضمانة ضد تحديات المستقبل ما لم يتم استثمار هذه الاحتياطات بشكل فعال تحسبا لأي تحولات قادمة. صحيح أن التخوف ليس من أن تستهلك المملكة كل إنتاجها من النفط وهي أساسا منذ الطفرة الثانية استثمرت كثيرا في زيادة الإنتاج، ولكن الوجه الآخر للتخوف هو أنه بحسب تعبير هشام أخنوبي في دراسة حول سياسة النفط في المملكة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS): قد تجد السعودية نفسها في موقف غير مستقر كأكبر منتج ومصدر في سوق تواجه احتمالات زيادة العرض (oversupply).