نمط الحياة الاجتماعي المتوافق مع تشكيل الإنسان ذي البعد الواحد هو عصر تفضيل الرمز على الجوهر، وإن الحاجات التي يلبيها المجتمع في وقتنا الحالي هي حاجات وهمية من صنع الدعاية والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري، وإذا كان المجتمع يحرص على تلبية هذه الحاجات، فليس ذلك لأنها شرط استمراره ونمو كيانه الإنساني فحسب، بل أيضاً لأنها خير وسيلة لخلق الإنسان ذي البعد الواحد القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد، والمتكيف معه. وهي أن يقدم الإنسان نفسه كأداة لها سعر بمعنى أن يكون "ذات اقتصادية" وليس "ذات حرة" من خلال تغيير نمط وجوده واستبدالها ببنية أخرى جديدة.

إنّ ما نفعله في الحياة يحدِّده اتصالنا بأنفسنا، والأمور التي نتحرك من خلالها والتي تمثل هويتنا. فمثلا لم تعد المنظمات هي فقط من تقوم بتشفير معلوماتها، إذ هناك توجه كبير بدأ منذ وقت طويل لتشفير كوادرها البشرية. فأصبح من الصعب أن تجد إنسانا اليوم بدون كود وشفرة، فهو أينما توجه يحمل كودا مشفرا لشكل حياته بحيث لا يمكنه التعاطي معها إلا من خلال هذه الأكواد، فهو في منظمته يحمل كود وشعار المكان الذي ينتمي إليه، في سيارته، في هاتفه المحمول.

المشكلة ليست في "الشفرة الرقمية أو الرمزية" المشكلة تكمن في الإسراف في ترسيم الآلة على حياتنا، وهنا نجد أن استلابنا يجعلنا عاجزين عن التقرير لأنفسنا: من نحن؟

نظرية الفوضى والمنطق الغامض يتمثل في نظام تشفير فوضوي غامض. إنَّ الإنسان وما تتشكل منه خريطة حياته ونظرته للأشياء من حوله، إنما تتشكل من خلال مؤثرات عدة. وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان حينما يبلغ سن السابعة يكون قد تبرمج لديه ما يقارب (90%) من تفكيره ونظرته للحياة، بينما تكتمل برمجته في سن الثامنة عشرة، ولكن هل يعني هذا أن ما تمَّت برمجته في العقل الباطن صار نهائياً ولا يمكن تغييره؟ الإجابة عن هذا السؤال نعرفها من خلال معرفتنا للمصادر التي ساهمت في برمجة الإنسان وفق رموز ورؤى وصور اجتماعية معينة، البرامج التي جعلته رقما في قائمة طويلة مشفرة لصالح جهة ما، أو تنظيم ما كونه إنسانا داخل آلة معقدة بغرض تدجين الإنسان وإخضاعه ضمن هذا الواقع الذي يتم عن طريق جعله رقما تسلسليا ضمن آلة رقمية لا نهائية.

إن التشفير لم يعد من الوسائل التي ترتبط بأمن المعلومات فحسب؛ بل دفعت بالإنسان أن يكون "كود" حقيقيا لا يُعرف بذاته بقدر ما يُعرف من خلال هذا الكود الذي لم يلحق بحياته على المستوى البسيط وعلى مستوى الجماعات الكبيرة، بل امتد بتمكن ليمس حياة البشر النفسية والذهنية. ليصبح كل شخص رقما ضمن النظام العالمي الجديد.