في ظل ما نحن فيه من انفجار إعلامي مهول، يجد المرء نفسه محاصرا بالقنوات التي تمطره بالأخبار والمعلومات والكلام الذي لا نهاية له، حتى طغى التسطيح على الرصانة، والارتجال على المعايير، وكما في نظرية عبدالله الغذامي التلفزيونية سقطت النخبة وبرز الشعبي.

لكن أن يصل هذا "الهبوط" إلى الإذاعة فهذا ما لا يجب أن يمر مرور الكرام، أو أن يكون طبيعيا وفي سياق تاريخي صحيح!

أتذكر جيدا عندما بدأ بث إذاعة Mbc-fm وأتذكر كيف كنا نتبادل أشرطة الكاسيت التي تصلنا عن طريق المعارف والأقارب في مناطق البث الأولي. حيث لم تصلنا هذه الإذاعة الثائرة على التقليدية والكلاسيكية التي اعتدناها، إلا بعد قرابة سنتين من بثها أول مرة.

لكنها اليوم تفقد حميمية الإذاعة ودفأها، وطابعها الذي جعل منها الوسيلة الإعلامية الأقرب من قلب الإنسان البسيط في الماضي، والذي لم يزل بيننا إلى هذه الساعة.

لقد تغير نمط "الإذاعة" بدخول أكثر من منافس جديد. وكأنما المنافسة على الهبوط لا الرقي. إذ لم يعد أثير الإذاعات بعد انفجارها، ودخول الصالح على الطالح، على شيء من سحرها الأول. لم يعد لصوت الإنسان الرزين والهادئ الذي يشعرك بالراحة والحب والسعادة، أي أثر يذكر في إذاعات الانفجار الإعلامي.

لم تعد البرامج ذات طابع إذاعي معياري محترم كما كانت. وأصبحت كما تبدو بلا معايير. ولكم أصابني غثيان لا وصف له، بسماعي عناوين العديد من البرامج الإذاعية المسلوقة. فهناك برنامج بعنوان "وش تحس فيه" وآخر اسمه "الطش والرش والبيض المفقش". في مشهد بائس لا تملك أمامه إلا أن تقضي وقتك ذاك في التأمل والصمت. إن الصمت المميت أهون على صاحبه من الصراخ المميت في إذاعاتنا اليوم.

وحين تتحول الوسيلة الإعلامية من أداة لجذب الجماهير نحو المعرفة والرقي والتنوير، إلى أداة لترقيص الجماهير، وتعبئتها بأصوات "الطق" وصراخ مطربي الحفلات الخاصة، وإلى أداة تسطيح لمن يعيشون فوق السطح أصلا، فإنها تغدو وسيلة مهترئة ولا يعول عليها.

وفي هذه الحالة، طالما شعرت بالحاجة والحنين الشديدين إلى إذاعتنا السعودية، والرجوع إلى الأرض، بعدما ضاق الفضاء بفراغ الفارغين وترهاتهم.