إذا كان الطلاق بالنسبة للزوجين في حالات كثيرة حلا أمثل يخلصهما من معاناتهما اليومية، ويحررهما من حياتهما الكئيبة المشحونة بحمم الغضب، وطوفان من الثورة الجامحة، والانفعالات الصارخة، والهموم الجاثمة على الصدر..

فإن الطلاق بالنسبة لأطفالهم الصغار ليس إلا انفجارا للظلمة عن صبح كسيف، وريحا عاصفة فرقت جمعهم بعد التئام، وشتتت صفحات تاريخهم المشرق، الحافل بيوميات ترفل بأوبار العز والترف، وكأن الأرض انشقت فابتلعت أفراحهم وهزلهم، ولفظتهم ونبذتهم، ليتضوروا في أيامهم القابلة أحزانا لا تشبهها أحزان، وفي بعض نواحيها الأخرى محنا لا تشبهها محن، إذا ما قيست بعواطفهم البريئة، وأحاسيسهم الناعمة، وعقولهم الفتية، وتجاربهم البسيطة.

فأعينهم لم تتفتح بعد على الحياة الزوجية في سعتها ورحابتها، وما تضمره من أسرارها، وما يكدر صفوها من هموم ومشاكل تستدعي الطلاق، فهم لا يفكرون بعقول الكبار ممن أدركوا بعلمهم وبصيرتهم، أن الحياة لا تستقيم لأزواج حزان، نحيبهم لا يبخل على أيامهم بالدموع، فيبحثون عما هو أروع وأخف على الروح والجسم، وعن بعث جديد يكسو أيامهم بكساء من نور الشمس، يضيء الوجوه بالبسمات فتشرق حسنا وبهاء، ولا يشعرون فيما يشعر به الكبار بعواطفهم المكدودة، وأجسامهم التي نمت وشب فيها الاتزان والاستقرار، فقل فيها الهزل وحل محله الجد والحزم، فصارت اهتماماتهم عظيمة، وقضاياهم جسيمة، ومسؤولياتهم مختلفة، ووظائفهم متعددة، تحتم عليهم أن يظفروا بلحظات السعادة، وأن يتزودوا خلال رحلة كفاحهم وجهادهم، بقبس من نور يتوهج، وبطاقة فوارة تجيش بها حياتهم الزوجية.

إنهم لا يدركون إلا أنهم براعم أنجبهم آباؤهم وأمهاتهم، لم يختاروهم كما لم يختاروا أصلابهم ولا ترائبهم، ولا الأرحام التي تحملهم، ولا الدماء التي تتدفق في شرايينهم وأعصابهم، ولا تصرفاتهم، ولا حياتهم، وبيئتهم، وواقعهم.

فمن حقهم الطبيعي أن يعيشوا حياة طبيعية، لا تستدعي فيما تستدعيه حالات الطلاق من الانفصال عن آبائهم أو أمهاتهم، وعن مرافقتهم والاستئناس بصحبتهم وحديثهم ومشاركتهم في أحلامهم وآمالهم، كما في اختياراتهم واتخاذ قراراتهم، وفي لحظات الفرح والحزن، وساعات الغضب والهدوء، وكل أطوار حياتهم بفصولها المختلفة.

فهم ما زالوا في ملاطفة أحلام الصغار، يحملون بعواطفهم شغفا لحضن مشترك يحتويهم، هو قلب الأم الدافئ، وقلب الأب الحاني.

وما زالوا بأجسامهم الفتية يدبون على الأرض دبيب النمل، يقتاتون من فتات الخبز لقيمات تكفي بطونا صغيرة، لا يعلمون عن حياتهم إلا ما تلقيه إليهم الصور، والأصوات، والمشاهد في أيامهم المتصلة، التي يتبع بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا، فلا اختلاف إلا في أحاسيسهم تضطرب كلما تعاقبت عليهم المحن والمآسي، يجسدها آباؤهم وأمهاتهم بعد الطلاق، في مشهد إنساني يبلغ من نفوسهم موضع الغضب، ويثير في قلوبهم موجدة وغيظا وتمردا، حينما يتحول هذا الطلاق إلى حالة مرضية من العداء الإنساني والرغبة الملحة في الانتقام من الآخر، الذي يتصوره قد حرمه من سعادته، واستقراره، وأسرته، وبيته، وممتلكاته المادية والمعنوية.

وحينما يتحول هذا الطلاق إلى استغلال الآباء أو الأمهات للحضانة كورقة قانونية وشرعية لاستعادة حقوقهم والثأر لأنفسهم، على حساب الصحة النفسية لأبنائهم، فيبدأ كلاهما يخترع لنفسه أسبابا ومبررات تدعوه لينتقم من الآخر في أبنائه، أو استغلالهم واستمالتهم وكسب ودهم ومحبتهم، حتى يرضوا عنهم أتم الرضا، ويكيلوا لهم المديح كيلا، ويهيلوا عليهم الثناء هيلا، على حساب علاقتهم بالطرف الثاني.

وهنا ماذا يقترف الآباء والأمهات؟ إنهم ينتقمون من أنفسهم وفلذات أكبادهم، ويلحقون الضرر بصحتهم وصحة أبنائهم النفسية، ويسيئون إليهم ولمستقبلهم ولذاكرتهم ولتاريخهم، فيعلمونهم كيف يعيشون أبغض العيش، وأبشع حياة، تخطف منهم النوائب والخطوب أفراحهم ومسراتهم، حتى لا يتبقى لهم إلا أن ينطلقوا ساهين، لاهين، عابثين، ساخطين على أنفسهم وغيرهم، يتقمصون أدوار البطولة كما تعلموها داخل مؤسسة الأسرة، حيث الأحداث لا تنام، وإن ناموا ملء جفونهم، ينتجون للدنيا قصة مكررة، ومأساة جديدة، هي ضياع الأخلاق والضمائر، وضياع القيم الإنسانية.

وكأنهم يعلنون بصوت الطفل الصارخ بداخلهم: إننا نسخةٌ مكررةٌ منكم أمي وأبي، فقد حفظنا دروسكم كما تلقيناها عنكم وعن أيامكم التعيسة، وحياتكم المشحونة بالغضب، والآن نصفق لكم بحرارة ونعترف أمامكم أنكم قد نجحتم في أن تجعلونا ضحايا ومسخا إنسانيا، حين طمستم معالم شخصيتنا صغارا وألزمتمونا أن نرتدي لباسكم، ونخضع لقراراتكم، ونتجرد من إرادتنا ورغباتنا واختياراتنا، وحين حرمتمونا من براءة الأطفال، وسرقتم منا فرحتنا بطفولتنا، ونشوتنا باللعب، واللهو، والمرح، واغتصبتم حقنا في العيش بسلام، وسخطتم على أنفسكم فينا أشد السخط، فأصبح من أعسر العسر علينا أن نثق بكم كموجهين وكمربين، أو نثق بأنفسنا ومستقبلنا معكم، أو نثق بالحياة القابلة، وبالمجتمع الذي قذفتمونا إليه قذفا بلا لجام يحكمه، ولا قيم تلزمه، ولا أحكام توجهه.

واليوم نهدي لكم شهادات تخرجنا من مدارسكم، وجامعاتكم، ومعاهدكم لتحصدوا ثمار ما زرعتموه بداخلنا، ولتفتخروا بما حققتموه من انتصارات وإنجازات علينا، وها نحن أمامكم نقف صاغرين فقد صرنا نفاية قيم، ورماد حطب إنساني أحرقتموه بلهيب الانتقام منا ومنكم.

واليوم ننحني لكم خضوعا وتقديرا لما قدمتموه لنا من دروس مادية خالية من كل معنى إنساني رحيم، ولاستغلالكم لحبنا، واستنزافكم لعاطفتنا الموزعة بينكم، ولانتهاككم لحرمة الحضانة، فجعلتموها سببا للتفريق بيننا وفصلتم دماءنا عن دمائكم، وقطعتم صلة الرحم التي تصلنا، فصرنا بلا سكن، ولا دفء أسرة ، وبلا هوية، ولا مستقبل، وبلا أحلام ولا آمال، وبلا أمان ولا اطمئنان نفس، ولا حياة إنسانية، وصارت أهواؤكم تقودنا حيث شاءت، وعواطفنا وقلوبنا تحترق بين السندان والمطرقة، موزعة بين حقد الرجل وانتقام المرأة، وبين سلطتكم وسلطة القانون، وبين اختيارين أشبه بالاختيار بين الحياة والموت، فكيف تصورتم أن نفرق بينكم؟ وكيف نملك أن نقدم أو نفضل أحدكم على الآخر؟ وكيف نضع عواطفنا ومشاعرنا وحبنا لكم في الميزان؟.

والكلمة الختامية نتركها لكم أيها الآباء الأعزاء والأمهات الفضليات.