بالأمس، كان مجلس الوزراء يضع يده على واحد من أهم الملفات التي تمثل هاجسا وحدثا يوميا في حياة كل السعوديين، حين أقر المجلس إنشاء هيئة وطنية لتقويم التعليم العام.
لا تتوقف قضايا التعليم في المملكة عن التداول اليومي والحضور الواسع في كل وسائل الإعلام وعلى ألسنة الناس ذلك أنه القضية التي تمس حياة كل منا، وتمس واقع الوطن حاضرا ومستقبلا، ولا مبالغة إذا قلنا أن حالة القلق والترقب العامة تطغى على حالة الطمأنينة. ومستوى الرضا العام عن التعليم ما زال متراجعا للغاية، خاصة أن بعض القصص التي تظهر غالبا مع بداية كل عام دراسي ومن مناطق مختلفة في المملكة تساهم في رفع ذلك التذمر وتجعله مؤثرا في صناعة الانطباع السلبي القائم أصلا عن الوزارة.
ظلت وزارة التربية والتعليم لسنوات هي الوزارة الوحيدة التي تدور ملفاتها في زاويتين اثنتين: الزاوية الفكرية التربوية والزاوية الفنية والتعليمية، فهي أكثر وزارة يطلب منها باستمرار أن تقوم بكل عمليات التطوير والتحديث لكل جوانب العملية التعليمية، وهي في ذات الوقت أكثر وزارة يشتعل الجدل حول كل خطوة تطويرية تقوم بها. فمثلا لا يتوقف الحديث عن أهمية تطوير المناهج، وهذا جانب فني، ثم ما يلبث ذلك التطوير أن يتحول إلى قضية صراع فكري وتجاذبٍ بين مختلف التيارات. وهو ما أوقع كل عمليات التطوير التي تقودها الوزارة في مواجهة مستويات متعددة من الاستقبال. كيف للوزارة أن تثبت أن ما تقوم به يمثل تطويرا؟ وفي الوقت نفسه كيف لها أن تثبت أن ذلك الذي تقوم به ليس (تغريبا)؟.
حين تم إقرار مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم، تحول هو أيضا إلى معركة ومادة للصراع بين التيارات، لتجد الوزارة ذاتها محاصرة بحالة من التلقي الاجتماعي المتصارع أصلا. ولنأخذ مثلا على ذلك فمعظم الدراسات التربوية في كل العالم تؤكد أن الطفل ذي السنوات الخمس أوالست من طلاب الصفوف التعليمية الدنيا يفضل أن تتولى تعليمه معلمة، فهي أقرب إلى مناخ الأمومة الذي ما يزال الطفل متعلقا به، وهي الأقدر على دمجه في هذا الواقع التعليمي الجديد. كل أولياء الأمور إذن سيطالبون الوزارة أن تبحث لهم عن هذا الأفضل، وهذا حقهم، إلا أن هذه القضية أشعلت معركة فكرية وحالة من الممانعة والاتهامات للوزارة بأنها تقود مشروعا تغريبيا وتقوم بخطوات لتطبيع الاختلاف، وصدرت من الأقوال والاتهامات للوزارة ما يجعلك تشعر أنها وزارة في السويد أو في فلندا وليست وزارة في طريق الملك عبدالعزيز بالرياض. والذين يعملون بها ويخططون لكل برامجها هم من أبناء هذا الوطن ومن نسيجه الاجتماعي.
أكثر قضايا الوزارة التي تظهر مع مطلع كل عام دراسي غالبا ما تكون من مناطق صغيرة ومن محافظات غير مركزية وهو أمر لا يرتبط بالوزارة فقط، بل بواقع التنمية التي ما تزال متأخرة في بعض المناطق والمحافظات وبالتأكيد أن إنشاء المؤسسات التعليمية يعد من أبرز عوامل التنمية، إلا أنه لا يمكن أن يتم مفردا فبناء مدرسة في منطقة ما إنما هو جزء من تركيبة تنموية شاملة تشمل الطرق والخدمات وغيرها.
بالتأكيد أن كل ذلك لا يلغي أبدا المسؤولية الكبرى والمستمرة لوزارة التربية، بل ويجعلها مطالبة باستمرار بتحمل الاتساع المستمر في مسؤولياتها، بل والضغط على مختلف الجهات باتجاه ما يساند تحقيق هذه المسؤولية.
أمام كل ذلك، ما الذي سوف تؤديه الهيئة الوطنية الجديدة لتقويم التعليم العام؟ الإشكالات الأبرز التي تواجه الوزارة هي في غالبها تنطلق من غياب التقييم الفعلي لكل ما تقوم به ولكل مخرجاتها، فالتقييم عملية ترتبط بقياس واقع التعليم بالنظر إلى كل أطراف المعادلة التنموية وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى، خاصة أن كل خلل تنموي أو تربوي أو اجتماعي يمكن ربطه بخلل تعليمي تربوي.
ستقوم الهيئة بعدد من الإجراءات منها: بناء نظام للتقويم ولضمان جودة التعليم العام، يتضمن المعايير والمؤشرات الأساسية، وإطاراً وطنياً لمؤهلات التعليم العام وجميع ما يتعلق بذلك من إجراءات ونماذج. وتقويم أداء المدارس الحكومية والأهلية، واعتمادها بشكل دوري بناء على معايير الهيئة، سواء تم ذلك من قبل الهيئة أو بالتعاقد أو التعاون مع المنشآت المختصة في مجال التقويم والاعتماد. إضافة إلى بناء الاختبارات الوطنية المقننة لكل مرحلة دراسية.
هذه الإجراءات تقتضي بالتأكيد أن يتحول المعيار الأول ليصبح معيارا وطنيا تنمويا، وهو ما يعني توجيه كل مقدرات التعليم بهذا الاتجاه، وحينها لا تصبح الوزارة مضطرة لتكون طرفا في معركة ولا جزءا من مواجهة.