قلت: إن اليمن ما برح وعثاء الصراع، ويعيش وضعاً يستعصي علي التشخيص، وسيرى المتأمل في ثنايا التأريخ المعاصر لليمنيين صفحات مكتظة بالطلاسم المبهمة، يتصدرها حشد من التمائم التي تعاقب على كتابتها مشعوذون عتاة، وصلوا إلى مراكز القرار بقوة التخلف، ووسائل الغواية والكيد.
ولم يكن هذا شأن اليمن في الماضي، فقد لازمها في الحاضر، وما من سبب يدعو إلى اعتبار المستقبل القريب مختلفا.
وإذ تدري اسم رئيس البلاد ورئيس حكومته، فإنك حيث يممت وجهة أخرى من مفاصل الدولة ومؤسساتها المفترضة، لا تجد في انتظارك غير عناوين فوضى يمسك الماضي ناصيتها، ويوجه مساراتها ويتحكم في أقدارها.
وفي غضون 48 ساعة من أحوال هذا البلد تمنحنا ملاسنات الصراع وتناقضاته المروعة صورة ضوئية من (معزوفات) الإقدام والإحجام ومقذوفات الرعونة والإبهام.
خلال هذا الوقت القصير من عقرب الاضطراب، ينبري الرئيس عبدربه منصور هادي، متحدثا عن دواعي المصلحة الوطنية العليا، وموجباتها الوطنية والأخلاقية على الأطراف التقليدية المتداولة أحقاد الماضي ومحاصصات الغنائم في الحاضر.
الرجل وهو يرأس اجتماعا مع أطول المجالس النيابية عمرا في العالم، طالب أعضاء الكتل البرلمانية الحزبية التزام روح الفريق الواحد، ونسيان التفاوت القديم بين طرف يمثل السلطة وآخر يعكس دور المعارضة، منطلقا من شراكة كليهما في حكومة وفاق رتبتها المبادرة الخليجية.
دلت كلمات الرئيس على كوامن ألم متقد بين جنبيه، ولا شك أن اليمنيين يدركون حجم معاناته وهو يعتلي مقاليد الحكم، وبلاده في وضع الجثامين المتحللة.
قديماً قال شاعر أدركه الغبن وعقلت الحكمة سهامه:
(قومي هموا قتلوا أُميم أخي
فإذا رميت يصيبني سهمي)
ربما كان هذا حال الرئيس هادي، بعد أقل من 24 ساعة تلت خطابه في "المؤبدين" تحت قبة البرلمان، ومقابل ذلك سرعان ما التأم نحو 3 آلاف من كوادر حزب المؤتمر الشعبي، الذي سلبته التسوية نصف الحقائب الوزارية، وصيرته الأحداث غمدا ضيقا يتنازعه سيفان: رئيس سابق يتقن المغامرات، ورئيس انتقالي يصدق فيه قول فارس يمني: (نحاول أمراً أو نموت فنعذرا).
صعد صالح على منبر مناسبة مختلقة، وأخذ يرشق الاتهامات في وجه الجميع، مستبقا مؤتمر المانحين المنعقد بالعاصمة السعودية بيوم واحد. الخطاب الحماسي تضمن حزمة من الاتهامات.
حكومة الوفاق فاشلة وعاجزة ومتسولة والشعب متنكر ومنح ثقته هدرا لمن هبّ ودب وبصدد توحيد المؤسستين الأمنية والعسكرية بمعايير مهنية احترافية، فإن الإجراءات القائمة ذات طبيعة غير مقبولة وماذا أيضاً؟.
الملتحقون بقطار التغيير من قيادات حزبه موصومون بالفساد، ومنافقون متى قاموا لأداء الشعائر الدينية؟! أما الشباب الثائر فمرتزقة يعملون لحساب جهات ضخت الدولار إلى ساحتهم، ومولت الحرب والخراب وإراقة دماء اليمنيين؟
وفي غضون هذين اليومين تتناهى إلى مسامع العالم أنباء غارة نفذتها طائرة سلام راح ضحيتها اثنا عشر مواطنا يمنيا.. أوسمة البراءة لاحقاً دون الخوض في فرضية السيادة المنتهكة؟
على أن الـ 48 ساعة ستنتهي بكلمة رئيس الحكومة الأستاذ محمد سالم باسندوة، في مؤتمر المانحين وتصريحاته حول الخزينة الفارغة، التي ورثتها حكومته عن نظام الحكم السابق، وهو ألمح لمتغير جدي طال معضلة الفساد داخل بنية الدولة، إذ لم يعد العبث بمقدرات الشعب يحظى بسند سياسي.
هل يحتاج الفساد إلى لياقة في التناول أو دبلوماسية في التعامل أم تلزمه مواجهة حاسمة وحرب ضروس تستأصل شأفته وتقتلع جذوره ريثما تقوم قائمة الدولة وتنهض بمسؤولياتها التنموية، كيلا يحتاج شعب اليمن لاستعراض ندوبه على كل قارعة طريق؟
تعمدت كتابة هذا المقال السردي للكشف عن طريقة قوى الصراع التقليدي في استهلاك الوقت وإعاقة إرادة التغيير، لتغدو البلاد مجرد حلقة صغيرة في متواليات العقل المأزوم؟.
وكيف لا يكون هذا حالها وملابسات الحوادث الأمنية يطويها النسيان، وأمين عام الحزب الاشتراكي مستشار رئيس الجمهورية د. ياسين سعيد نعمان، يغادر صنعاء إثر محاولة اغتيال وصفتها وسائل الحزب بالغادرة نظرا لوقوعها ضمن نطاق الجبهة المناوئة لصالح؟.
بيد أني لم أشر بعد إلى أهم رسالة أراد النظام اليمني القديم تداولها من خلال تصدر سفراء إيران وروسيا والصين قاعة الاحتفال المؤتمري، كاستثناء وحيد من بين رؤساء البعثات الدبلوماسية الشقيقة والصديقة!! ولا ريب أن عبارات التهديد بالمخاطر المستقبلية وتكبيرات صالح المتوعدة تعني استحضار الانقسام الدولي حول اليمن، لا ريب أنها تحكي سورية!! فمتى تنفرج أسارير الحنين إلى السلطة في اليمن؟ وهل يغادر الربيع سوح السعيدة ودعاة التغيير يطوون قصة ثورة غاب عنها بلح الشام ولم تجتن عنب اليمن؟!