أمسى مؤكدا، بعد اختتام مؤتمر الحزب الديمقراطي العام في شارلوت هذا الأسبوع، وإعلان الرئيس الأميركي، باراك أوباما مرشحا للحزب في الانتخابات القادمة، وقبول الأخير ترشيح حزبه له، أن التنافس منذ الآن، على مقعد الرئاسة سيحتدم بين المرشح الجمهوري ميت رومني والرئيس باراك أوباما عن الحزب الديمقراطي.

نحاول في هذا الحديث أن نفي بما وعدنا به في الحديث السابق، بتقديم رؤية استشرافية عمن سيكون أكثر حظا بين المرشحين، أوباما ورومني بالفوز في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر القادم.

وهنا نعود للتذكير بما استنتجناه في حديثنا السابق، عن أن تحديد من يصل إلى كرسي الرئاسة في أميركا، مرتبط بالدورة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. فإذا كان هناك تضخم شديد، فإن المطلوب هو وصول رئيس ينتمي إلى الحزب الجمهوري، وإذا كان هناك كساد قاس فإن المطلب هو وصول مرشح عن الحزب الديمقراطي لمقعد الرئاسة. أوضحنا أيضا أن استمرار أي رئيس أمريكي في الحكم لأكثر من دورة انتخابية، يعني أن الدورة الاقتصادية لم تكتمل بعد، وأن هناك فسحة للرئيس ليواصل مهمته، إلى أن تبلغ الدورة ذروتها، بانكماش أو تضخم.

لا جدال، أن وصول الرئيس أوباما للحكم قد ارتبط بأزمة اقتصادية حادة، مرت بها الولايات المتحدة، وأثرت بنتائجها على العالم بأسره. وكانت أزمة الرهن العقاري، هي نقطة البداية في الإعلان عن الأزمة ليتبعها الإعلان عن إفلاس آلاف البنوك، بالولايات المتحدة وأوروبا. ورغم مضي ما يقرب من خمس سنوات على الإفصاح عن هذه الأزمة فإن نتائجها لا تزال تلقي بظلالها ثقيلة على عدد من البلدان الأوروبية، وبشكل خاص في اليونان والبرتغال وإسبانيا، محددة بانفراط الاتحاد الأوروبي.

لقد عمل الرئيس أوباما طيلة الأربع سنوات التي قاربت على الانتهاء من وصوله للبيت الأبيض على معالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية في بلاده، وفي هذا السياق، نفذت حكومته ما وعدت به من الانسحاب العسكري من العراق، بما يخفف من الأعباء المالية التي تعاني منها الخزينة الأميركية. وعند انطلاق ما جرى التعارف عليه بالربيع العربي، طبقت الإدارة الأميركية نظرية الحرب بالوكالة، ومنحت دورا رئيسيا لحلف الناتو وللدول الحليفة أثناء الحرب على ليبيا التي انتهت بسقوط نظام العقيد معمر القذافي.

نجح الرئيس باراك أوباما إلى حد كبير، في برنامجه الاقتصادي، الذي أعلنه غداة ترشيحه من قبل الحزب الديمقراطي، في المرة الأولى، لكن الأزمة بقيت قائمة. فالأزمة كما بدت في أبعادها المختلفة أصبحت عالمية، ولا يكفي في معالجتها السياقات المألوفة التي اعتمدها الحزب الديمقراطي سابقا، من رفع للضرائب بشكل تصاعدي على الشركات الكبرى، وتوسعة الخدمات الاجتماعية ومحاربة البطالة، وتوسعة الأجهزة البيروقراطية، وإشادة دولة الرفاه.

هذه الحلول التقليدية، تفترض في مقدماتها قدرة للولايات المتحدة على توسيع صادراتها، ووجود قوة اقتصادية ونقدية لدى الدول المستهلكة لتلك المنتجات، وهو ما لا يمكن تأكيده في ظل أزمة الركود الاقتصادي العالمي الراهنة. وأيضا، في ظل الصعود الكاسح للاقتصاد الصيني، وفاعلية منتجاته، وقدرة مختلف الطبقات المتوسطة والفقيرة على اقتنائها.

تلك قراءة، تبدو على السطح في غير صالح المرشح باراك أوباما، لكنها في حقيقتها تأكيد على أهمية استمرار الحزب الديمقراطي بقيادة أوباما في الحكم لدورة أخرى. وذلك هو ما يتسق مع الدور الذي تضطلع به الأحزاب السياسية التي تطرح الاقتصاد الموجه بديلا عن الانفلات والفوضى وما يعرف مجازا بالحرية الاقتصادية. ففي وقت الأزمات يصبح تدخل الدولة في الاقتصاد أمرا لا مفر منه. وقد أكدت ذلك الأزمات الاقتصادية الحادة التي مرت بها أوروبا في القرن المنصرم. أو ليست النازية والفاشية هما بعضا لتجليات الأزمة الاقتصادية التي عاشها العالم في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي؟.

وما دامت الأزمة الاقتصادية مستمرة، فإن الحاجة ماسة للحزب الديمقراطي وليس الجمهوري، لأن الأول يطرح تدخلا مباشرا للدولة لحل هذه الأزمة، بينما يطرح الحزب الآخر، الحرية الاقتصادية ومبدأ آدم سميث دعه يعمل. ويعتبر الفوضى والتنافس سبيلا لتحقيق الانتعاش، وذلك ما لا تحتمله طبيعة المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة الأميركية والعالم بأسره.

يضاف إلى ذلك، حقيقة أخرى أكدتها التجارب السابقة للانتخابات في الولايات المتحدة، هي ضرورة استكمال الدورة الاقتصادية، باتجاه التضخم أو الانكماش، لكي يتحقق الانتقال السياسي، ويتسلم حزب آخر غير الذي يقود السلطة. لقد تسلم أوباما السلطة واقتصاد بلاده في حالة انكماش وكساد كبير، وحقق بعض الإصلاحات، لكن الوضع الاقتصادي لم يعبر حالة الانكماش، ولا يزال بعيدا عن حالة التضخم. وليس من المعقول، أن يأتي الناخب الأميركي، برئيس يضاعف من حدة الأزمة الاقتصادية، ويعيد الماكنة إلى الخلف.

في الجانب السياسي، لا يتحمس الأميركيون كثيرا للسياسة، ويهتمون كثيرا بالاقتصاد. وموقف الأميركيين دائما سلبي وغير مكترث بتدخل بلادهم في شؤون البلدان الأخرى، حتى إذا كان ذلك بصيغة التدخل العسكري والعدوان. إن تدخل الموطنين الأميركيين بالسياسة رهن بالخسائر في الأرواح والمعدات، التي ربما يتعرضون لها حال العدوان على أي من بلدان العالم الثالث. عندها فقط تتصاعد الحركة الاحتجاجية ويضعف دور الرئيس الذي اتخذ قرار الحرب.

في حالة أوباما، ليس هناك ما يمكن أن يدان به سياسيا من قبل الشعب الأميركي. وبالنسبة للاقتصاد فإنه يعالج الآن أزمة ليست من صنعه، ورثها عن سابقه وعمل على إيجاد حلول لها. أخفق في حالات ونجح في حالات أخرى. ودورته الاقتصادية لم تكتمل بعد. وهي بحاجة إلى دورة رئاسية أخرى علها تكتمل، أو تحال إلى رئيس آخر، يرشحه الحزب الديمقراطي إلى أن تكتمل الدورة الاقتصادية، ويطل شبح التضخم بشكل مخيف ومدمر، يلجأ على أثرة الأميركيون لاختيار خط اقتصادي بديل، يعيد التوازن ويتجه بدورة اقتصادية جديدة، تعلي من شأن الطبقة الرأسمالية العليا، وتلجم دور الطبقة المتوسطة، في دورات متعاقبة لا يبدو أن لها نهاية، مؤكدة ترجيح فوز الرئيس باراك أوباما لدورة رئاسية أخرى، ما لم تحدث مفاجآت تقلب الطاولة رأسا على عقب.