كلّ أسرة عندنا تملك حلماً وردياً تتمنى أن يتحقق، وكلّ مجتمع فاعل يرجو أن يذهب فلذات أكبادهم إلى مدارس تجذبهم، ومعلمين يحبونهم، وتجهيزات مدرسيّة تختصر عليهم الجهد والعناء.
كلّ أمّة تجتهد في أن توجد لها مكانة، ولأبنائها قيمة، تستطيع أن تصل إلى غايتها، لكنّها تحتاج إلى أن تخلص في شيء تجيد العمل فيه.
ليس صعباً أن يكون لدينا تعليم جيّد، وتدريب متطوّر وفاعل، ومخرجات متنوعة وذات كفاءة عالية.
وليس مستحيلاً أن نكون أنموذجاً يحتذى به في شيء نملك مقوّمات كثيرة للتفوق فيه، بعيداً عن الصخب المصطنع، والإعلام الذي عادة ما يلامس القشور، لكنّه لا يتغلغل في الداخل، كي يبرز الجهود بأمانة، أو ينتقد مواطن الإخفاق والقصور بصدق.
في كتابين قديمين لعالم المعرفة والهيئة المصرية العامة للكتاب حديث عن التعليم في اليابان، يثْبُت فيهما أن اليابانيين لا يشاركون بعض بلدان العالم ازدراء العمل اليدوي، فالمدارس اليابانية تستخدم عمّال نظافة في المدارس أقلّ من أمريكا، ليس لأنّهم غير قادرين على توفير العدد الكافي منهم، بل لأن المدرسة معنية بزرع قيم اجتماعيّة وإنسانية في نفوس التلاميذ، حيث يسعون جاهدين إلى تأصيلها في النشء، لذلك يشترك الطلاب والمعلمون في نظافة مدارسهم، فيتعلّم التلميذ أنّ العمل شرف لا عيب فيه ولا حياء، ويسهم المعلّم في هذا العمل بأن يكون قدوة يضرب أروع المثل في حتمية العمل اليدوي وأهميّة القيام به.
في اليابان يتعلّم التلاميذ في المرحلة الابتدائيّة قيمة الادخار، فيقوم كلّ تلميذ في كافّة المدارس الابتدائية بادخار "ينّات" قليلة كلّ أسبوع لعدة سنوات لتمويل رحلته المدرسيّة في الصف السادس.
في اليابان هناك شراكة فعليّة بين المعلّم المجتهد والبارز وبين وزارته، فتسعى الوزارة إلى دعوة كبار رجال التعليم في كلّ مقاطعة لحضور جلسات مناقشة لمدّة يومين في المراكز القوميّة المختصّة، حيث ينقل أولئك الرواد المختصون البرامج الجديدة إلى مقاطعاتهم، ويديرون مناقشات مماثلة مع قيادات المدارس المحليّة لمدة يومين آخرين، وتختتم الجولة باجتماعات تُجرى على مستوى كلّ مدرسة محليّة.
في اليابان هناك رأي معتبر للمعلّم، فتستثمر تجربته التربوية عند إعداد المناهج الدراسيّة حيث تقوم لجنة قوميّة تضمّ عشرين معلّماً من أفضل رجال التعليم في كلّ مادة بدراسة البدائل المختلفة لتحديد طبيعة المهارات التي يجب على الطالب أن يكتسبها في كلّ مرحلة دراسيّة فيضعون الأهداف العامّة وقوائم الموضوعات المحدّدة والواجب تغطيتها لكلّ مقرّر دراسي، ويساهمون في تقديم توصياتهم فيما يتعلّق بأساليب التدريس.
في اليابان تتنافس الأسر بشكل لا فت مع بقيّة الأسر التي ترى أن نجاح أبنائها ينعكس مباشرة على نجاحها، وكما يوضّح الباحث "توماس رولين" فإنّ الأسرة الصغيرة والمتماسكة تعدّ أطفالها لامتحانات القبول بشكل أفضل ممّا تفعل الأسر الكبيرة أو المفكّكة أو التي فقدت أحد الوالدين، وذلك لأنّ الأسرة المتماسكة ترخص نفسها في سبيل أبنائها، فتلحقهم بالمدارس التكميليّة وتساعدهم في الاستذكار في البيت، وترتّب حياتها الأسريّة بحيث تضمن قدسيّة وحرمة الدراسة، ويُظهر الوالدان اهتماماً عظيماً بمدى حسن إعداد المدرسة أبناءها للامتحان.
كلّ هذا في اليابان التي بدأت مقلّدة للصين في خطواتها الأولى نحو التعليم، مثلها مثل كوريا التي نقلت النظام التعليمي الصيني ككل، فيما فشلت اليابان في ملاءمة النظام الصيني مع مجتمعهم، إلاّ أنهم تشبّعوا بروح تلك الأفكار الصينية إلى أن جاءت فترة حكم (توكوجاوا) التي تطوّرت فيها مؤسّسات التّعليم والتّعلّم تطوّراً فعليّاً حتّى تفوّقت اليابان على المؤسّسات التعليميّة الصينية والكورية، وذلك بفضل التضحيات الكبيرة التي بدأتها العائلات اليابانية بالتنازل الفعلي عن احتياجاتها الاقتصادية الأساسية من أجل إتاحة الفرصة لأطفالها في سبيل الحصول على ميزة التدريب على عملية التعلّم في دور الحضانة، أولتلقّي أحدث نظم التعليم.
كم هو مؤسف أن نلجأ في مواقف كثيرة إلى المقارنة بين ما عندنا وما عند غيرنا، ليس لأننا لا نملك أن نكون واجهة فعليّة لشيء بارز لا يحتاج إلى تلميع إعلامي، أو ظهور مُعْتَسِف للحقيقة، ومُتَجَاهِل للواقع، بل لأنّنا نشعر في نفوسنا بخيبة أمل كبيرة حين لا نجد في واقعنا التعليمي شيئاً يجعلنا نعترف بأننا قطعنا شوطاً كبيراً في هذا الجانب أو ذاك.
عندنا أشياء كثيرة تحتاج إلى وقفات جادّة، فما زالت عوامل الخلل التي أشار إليها الدكتور محمد الرشيد في كتابه ( تعليمنا إلى أين؟) ـ قبل سبعة عشر عاماً ـ قائمةً رغم الإنفاق المتزايد على التعليم، إلا أن كفاياتنا المهنية والعلمية والإدارية والثقافية والفنية ما زالت متردية.
ورغم التغير الملحوظ في المقررات المدرسية إلا أنّ مشكلة تطويع هذه المقررات في بيئات تعليمية مضطربة لا تفي بالغرض ولا تساعد على تنفيذ ما يمكن تنفيذه، كما أن عوامل النهوض بالمعلم ما زالت هي الأخرى متراجعة فلا يوجد تأهيل علمي كاف ومتطور لتقديم ما يجعل المعلم قادراً على الوفاء بمتطلباته الوظيفية على الوجه الأكمل.
لدينا مشروعات في التعليم تبدأ - في العادة - كبيرة، لكنّها لا تلبث أن تتحوّل إلى مشروعات صغيرة في الواقع، فلا يكاد أحد يراها أو يلمسها من المعنيين بها، فكيف بالمجتمع.
هذه الأسباب تجعلنا نتساءل وفي نفوسنا حسرات، ألا يستحقّ هذا البلد وأبناؤه أن تكون لديهم مدارس يُضرب بها المثل في التربية والتعليم نستطيع من خلالها أن نقول: عندنا وليس في اليابان.