سأكتب أمالي هذه الأرض إملاء، ربما للمرة الأولى من فمي إلى زاويتي دون ورقة أو قلم. أكتب من خلف مقود سيارتي، وأنا أذرع ما أسماه إبراهيم نصر الله ذات يوم سحيق بعدي بـ(براري الحمى) من براري نسخت جلدها القديم، ولكنها لا تلبث أن تعود فتستنسخه. وعلى يميني جبال السروات التي أسماها أهلها ذات قرن بعيد بـ"ساق الغراب" كناية عن الفقر والقهر والهجر وكل لوازم التشرد والغربة.
أذرع هذه الأصدار التهامية في طريقي إلى موعد مع صديق حبيب، وكم هي أصدار أهل مكان أن يذرعوا هذه الأرض حتى إلى سوق أو محطة.
أعترف أني قد مللت وربما أخذتني كآبة صفراء الغروب ووعثاء السفر إلى قراري القادم أن أكون ضمن قافلة المهاجرين إلى البوصلة المرتفعة العالية بعد أن سئمت أن أعيش ما تبقى تحت السقف. ومن خلفي ـ قبل قليل ـ تركت شجار ذلك الغلام مع أبيه في قرية مهجورة من هذه البراري ما بين سوق حباشة وبلدة القنفذة ولاحظوا: حتى الأسماء لا تتغير منذ ألف سنة، كان الأب يعظ ابنه وهو يسرد تاريخ المكان المنقرض مع الفقر والجوع والمرض، وكان الابن يعيد على أبيه قصة سنين خمس في مكان بلا وظيفة، ومن المؤلم لشاب أن يكتشف أن براريه اليوم أصبحت هي حتى بلا وظيفة.
ومن المؤلم أكثر من هذا، أن تصبح الأرض القفر في أحيان كثيرة ضمن طابور الرقص إلى شارع البطالة العالمي.
البطالة لم تعد حكرا على الأحياء، بل حتى على الأموات، من مثل هذه الأرض.
لم يعد لهذه المساحات الشاسعة من وظيفة إلا أن تنفذ نباتها البشري إلى تلك الأرض الغنية في البوصلة المرتفعة، ومثلي تماما تعيش هذه البراري تحت السقف، ومثلي حين تكاد أن تلبس نواياي من أجل الحجرة الوشيكة عبر الدرج إلى فوق الأسطح. تماما هي مثل هذه الأرض تكفكف ما تبقى في محاجرها فهي تنوي ألا تكون من عباده الذين ظلموا أنفسهم: (قل سيروا في الأرض).