بين ليلة وضحاها في شيكاغو من عام 2003 تحولت مجلة شعرية عريقة و(فقيرة) إلى مجلة ثرية ومثرية، عندما وجدت الثقافة من ينصفها إنقاذا ومشاركة حسا وروحا، وبالتالي إنقاذ الشعر وكثير من شعراء الولايات المتحدة الأميركية عندما قدمت المليونيرة الأميركية وسيدة الأعمال في الصناعات الطبية وصاحبة شركة الأدوية (روث ليلي) تبرعا بمئة مليون دولار لمجلة "شعر" الأميركية "Poetr magazine"، إيمانا منها بأن الشعر بدأ في التراجع في أميركا، قبل أن تختم كلمتها المأثورة في حفل التبرع: "أريد بعث الحياة في الشعر الأميركي، أريد مساعدة الشعر والشعراء لمواجهة غزو التلفزيون والفيديو والإنترنت".
وإلى منعطف آخر من الفكرة، يبرز تبرع ايلي برود، مؤسس SUNAMERICA بأكثر من 1.4 مليار دولار لمؤسسات خيرية، شاملة معها عديدا من المؤسسات الأدبية والعلمية.. لتتسع موسوعة تبرع الأثرياء من كل خريطة العالم لدعم مكتبات ضخمة في الجامعات والمدن هناك، وأخرى لمتاحف، وثالثة لنشر الكتب، ورابعة لمعارض فنية وموسيقية.. والمحصلة بقاء ما عملوا وأسماء مخلدة تكرارا حتى بعد مواراة الثرى، فيرحل المتبرع ويبقى اسمه (فقط) وما قدم.
"الثقافة" عملية تنمية للنواحي الفكرية والروحية والجمالية للفرد كانت أو للأمم وبناء حضاراتها، والمسؤولية الثقافية نحوها وللمثقفين جزء لا يتجزأ من الالتزام نحو الانتماء العميق بقيمة الأوطان والمجتمعات وثقافاتها التي ينتمي لها الإنسان نفسه، ورغم أن الأمثلة تتحدر من حولنا في تاريخ الإنسانية بتبني ثقافة "المسؤولية الثقافية" بكافة أشكالها ومنتجيها دعما واحتواء، إلا أنها ـ للأسف ـ تظل مغيبة وغائبة في مجتمعنا العربي والمحلي، وبعيدة كل البعد عن تفكير رجال الأعمال والبنوك والشركات ومبادراتها لتغدو عملة نادرة!.
وعلى الرغم أن لدينا مؤسسات ثقافية عريقة وصلت إلى العالمية بأهدافها مثل مؤسسة الملك فيصل الخيرية ومركز أبحاثها وجائزتها، وأخرى ممثلة في الأندية الأدبية وجهودها - غير المستقرة - إلا أنها تبقى أسيرة للدعم الحكومي الرسمي، وبالمجمل؛ تبقى محاولات مؤسساتية محدودة متناسقة مع حالات فردية تتبنى (بعض) المثقفين ونتاجهم وتكريمهم مباشرة مثل الصالونات الأدبية ومبادرات أخرى كتبرع رجل الأعمال (أحمد باديب) بمبنى جديد لنادي جدة الأدبي في وسط البلد، وقبله بناء قاعة النادي نفسه تبرعا من أبناء حسن شربتلي.. ومهما كانت الجهود المؤسساتية أو الحكومية أو الفردية فلا يبقى سوى الدعم المادي كعنصر رئيس وعصب هام في صناعة الثقافة في زمن مادي متسارع نحو "اللاشيء"!.
وفي خضم الانشغال بالأصفار من أثرياء العرب، ونحو زمن ترهات المكاسب المادية البحتة من أصحاب المشاريع الكبرى والأسماء المحلية الرنانة، ينبري "بكر بن لادن" بكل مسؤولية ثقافية ليحولها تماما إلى واقع أنيق يشدك في زمن النوادر، ليشارك مسؤولية "سوق عكاظ" الثقافية، وبكل تفاصيل الانتماء والشراكة نحو الوطن وثقافته قام بتكفل إنشاء مشروع خيمة سوق عكاظ (كاملةً) وبتكلفة تجاوزت 40 مليون ريال لدعم الثقافة والمثقفين، لتكون (خيمة) تحوي 3061 مقعدا لمشغولي الثقافة، مزودة لهم بقاعات محاضرات بأشكال معمارية أنيقة، ومصممة بهندسة معمارية تتسق مع كونها حاضنة لجميع البرامج والأنشطة الثقافية وتنضم إلى سلسلة المشاريع الكبرى الرامية إلى بناء مدينة تاريخية وسياحية على مساحة 9 ملايين متر مربع تتناسب والبعدين التاريخي والسياحي لسوق عكاظ خاصة ولتكون امتدادا لمسيرة ما يتبناه أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل في التنمية وبناء الإنسان وثقافته.
ومن قلب الوطن والمواطنة، نعتبر أن "بن لادن" رسم رسالة إنسانية ثقافية لكل رجال أعمال الوطن كي يكونوا مساهمين في الرقي بثقافتنا العربية والمحافظة عليها، فالصورة الأولى كانت في المواطنة الصالحة الخالصة، والأخيرة في تقديم مشروع خالد للمثقفين العرب والسعوديين، تُسطره مخيلة وطن وزمن، لأن الأوطان والتاريخ لا يحفظان إلا الأسماء الجميلة فقط ليكتباها، ويحفظها الأجيال، أما التقوقع داخل (الحسابات البنكية) وعباءة الأصفار فهو ديدن الضعيف الذي لا يخلده سوى الضعفاء كأرض بوار لا تاريخ لها.. !
وباختصار، يجعلنا درس "بن لادن" نتوقف عند رؤى مميزة للمسؤولية الثقافية ووميضا لمستقبل أبناء الوطن في زمن نحن بحاجة لحجج وتجارب تستحق الوقوف عندها تأملا وفخرا وإشادة، فشكرا "بن لادن" ومزيدا من التألق الوطني.