أحد التطورات بعيدة الأمد التي يمكن رصدها هو الاهتمام المتزايد من قبل القوى العالمية بمنطقة القطب الشمالي، ورغم أن الصورة الذهنية التقليدية لا ترى في تلك المنطقة سوى مساحة كبيرة من الجليد والطقس القطبي شديد البرودة، إلا أن ذلك لا يعكس حقيقة الأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة القطب الشمالي والتي تتضح من خلال معالم السباق العالمي نحو تلك المنطقة الذي تشعله الصين على وجه الخصوص.

تشكل المنطقة القطبية الشمالية نقطة التقاء جيو سياسية لعدد من القوى والدول الكبرى، وتتضح الصورة بشكل مؤثر عند النظر لخريطة الكرة الأرضية من الأعلى مباشرة فوق المنطقة القطبية حيث تلتقي الولايات المتحدة وروسيا وكندا إضافة للاتحاد الأوروبي من خلال الدول الإسكندنافية المطلة على المنطقة، وتأتي دول مهمة كاليابان وألمانيا وبريطانيا في دائرة ثانية أبعد وإن كانت لا تزال دولا تقع في المجال الحيوي للدول المطلة على المنطقة القطبية.

في عام 1996 تأسس مجلس القطب الشمالي Arctic Council كمنتدى يجمع الدول القطبية الثمانية (الولايات المتحدة، وكندا، وروسيا، والدنمارك، والسويد، وفنلندا، والنرويج، وآيسلندا) بهدف تعزيز التعاون والتنسيق بينهم فيما يخص شؤون تلك المنطقة، وكان أول إنجازات هذا المجلس هو إنجاز اتفاقية تتعلق بالتعاون في البحث والإنقاذ في القطب الشمالي في حالات الحوادث والتي تم توقيعها عام 2011. المجلس يضم عددا من الدول بصفة مراقب كبريطانيا وألمانيا. أهمية هذا المجلس هي أنه يمثل المنظمة الإقليمية الخاصة بمنطقة القطب الشمالي، ورغم أن المجلس لا يزال دوره محصورا في التنسيق بين الدول، إلا أن محاولة الصين مؤخرا الحصول على صفة مراقب في المجلس وكذلك دعوتها أن تكون منطقة القطب الشمالي منطقة دولية متاح لأي دولة أن تشارك في القرارات الخاصة بها تعد جميعها مؤشرات على الأهمية المتزايدة لتلك المنطقة.

في شهر يونيو من هذا العام قام الرئيس الصيني هو جينتاو بزيارة الدانمارك وتضمنت المحادثت فيما تضمنته من مجالات للتعاون الاقتصادي محادثات تعكس اهتمام الصين بجزيرة غرينلاد Greenland التابعة للدانمارك والحيوية في منطقة القطب الشمالي، كما قام رئيس مجلس الدولة الصيني ون جياوباو في شهر أبريل بزيارة كل من السويد وآيسلندا قبل ذلك للبحث في التعاون الاقتصادي وكذلك تعزيز التعاون فيما يخص منطقة القطب الشمالي.

تقديرات الوكالة الدولية للطاقة IEA تضع احتياطات منطقة القطب الشمالي بحدود 25 ترليون متر مكعب من الغاز و150 مليار برميل من النفط، وهو ما يشكل ثروة نفطية هائلة ستصبح أكثر جذبا مع ارتفاع أسعار الطاقة وبما يجعل عمليات التنقيب ذات جدوى اقتصادية، وحاليا بدأت الشركات الروسية على وجه الخصوص بالدخول لهذه الساحة بقوة في المناطق القطبية التابعة لها، وبدأت معالم الصراع تتضح أكثر من خلال المطالبات على المناطق من الدول المطلة وادعاءات الملكية والسيادة على الأراضي والحدود التي كانت في يوم من الأيام غير تابعة لأي دولة، ولعل حادثة قيام روسيا في 2007 بتثبيت علمها في قاع البحر تحت القطب الشمالي بعمق 4200 متر لتثبيت مطالبها الجغرافية في تلك المنطقة وما أحدثه ذلك من خلاف سياسي مع عدد من الدول؛ أشبه بالشرارة التي أطلقت السباق نحو القطب الشمالي.

المنطقة القطبية على ما يتضح غنية بالمعادن، وبحسب تقرير لستراتفور فإن أحد أوجه اهتمام الصين بجزيرة غرينلاند هو وجود احتياط ما يعرف بالمعادن أو العناصر الأرضية النادرة Rare Earth Elements - REE هناك، والتي تقدر بحدود 12 مليون طن ما يشكل 10% من الاحتياط العالمي. وتعد العناصر الأرضية النادرة معادن نادرة الوجود في الأرض وتستخدم في عدد من التقنيات الحديثة كأجهزة الليزر والبطاريات النووية والتقنيات الفضائية إضافة لعدد من الأجهزة والتقنيات الحديثة المهمة. تعد الصين اليوم أكبر مصدر للعناصر الأرضية النادرة وتحتكر ما يقارب 90% من الصادرات العالمية في هذا المجال إضافة لامتلاكها ما يقارب ثلث الاحتياط العالمي له.

لكن الجغرافيا السياسية تكشف عن أهمية القطب الشمالي بشكل أكبر وهو الوجه الذي يقع تأثيره علينا في العالم العربي، فمع انحسار الجليد في منطقة محيط القطب الشمالي نتيجة الاحتباس الحراري وتزايد التقنيات الخاصة بتكسيره، تبرز أهمية القطب الشمالي كخط نقل بحري، وبخاصة بين الصين ومنطقة شمال الأطلنطي (أوروبا والولايات المتحدة)، وبحسب تقرير ستراتفور فإن استخدام القطب الشمالي كخط بحري يمكن أن يقلل التكلفة بحدود 30-50%، فالمسافة بين شنغهاي في الصين وهامبورغ في ألمانيا يمكن اختصار ما يقارب 6500 كيلومترمنها باستخدام الملاحة عبر المحيط القطبي الشمالي وهو ما يختصر أسبوعا كاملا أو أكثر من الملاحة، ولكن الأهم من ذلك هو إتاحة خط بديل للصين بدلا من مضيق باناما شرق الصين نحو الأطلنطي أو مضائق ملقة والسويس وجبل طارق غربا باتجاه الأطلنطي.

تاريخيا، شكل اكتشاف مضيق رأس الرجاء الصالح نقطة التحول التي قتلت طريق الحرير وأتاحت للأوروبيين فتح آفاق تجارية مع الشرق في الهند والصين بعيدا عن الخطوط البرية التي كانت تمر في قلب العالم العربي، وهو ما شكل ضربة قاصمة للخطوط التجارية التي اعتمدت عليها الامبراطوريات الإسلامية حينها، ثم عادت قناة السويس لتضع المنطقة مجددا في قلب خط التجارة العالمية مما أضعف الاعتماد السابق على رأس الرجاء الصالح وكل الموانئ والدول الواقعة على طريقه. خط القطب الشمالي الجديد رغم عدم أهليته في المنظور القريب يظل تحديا وتهديدا حقيقيا للوضع الجيو سياسي العربي على خريطة العالم، فثقل التجارة العالمية يقع اليوم بين أقصى الشرق (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا) وبين أقصى الغرب (الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، البرازيل) وربط دول الشرق هذه بدول الغرب عن طريق الشمال من المحيط الهادي الذي تطل عليه دول الشرق إلى المحيط الأطلنطي الذي تطل عليه دول الغرب، إنما هو ضربة في مقتل.