سيسجل التاريخ ـ الذي لا يظلم ولا يرحم ـ أن أهم إنجازات الرئيس الأمريكي السابق/ "جورج بوش الابن" ـ بعد مهارته المدهشة في تلافي الحذاء ـ هو إسقاطه قبيل رحيله 2008م، اسم "نيلسون مانديلا" من قائمة الإرهابيين الدوليين، التي ظل فيها حتى وهو يرأس "جنوب أفريقيا"، متزامناً مع الفترة الأولى من رئاسة "بيل كلينتون"، المتميلح الآن بالتصوير مع "مانديلا"!
وها هي "الأمم المتحدة" ما صدقت أن ترفع عنها الوصاية الأمريكية حتى اختارت يوم ميلاده 18/7 يوماً عالمياً للنضال في سبيل الحرية؛ فلماذا هذا العجوز الأسود، وليس الجنرال العظيم/ "جورج واشنطن"، ولا الرئيس الأمريكي الأبرز في نظر الكثيرين/ "إبراهام لينكولن"، وغيرهما من ظلال التاريخ التي يتفيؤها العالم للأبد؟
لقد قاد "واشنطن" النضال الأمريكي ضد الاستعمار الإنجليزي المستبد الذي انتهى بإعلان الاستقلال في 4/7/1776م، وكان بمقدوره إعلان نفسه إمبراطوراً لبلاده دون أن ينازعه أحد في ذلك؛ نظير كفاحه البطولي المخلص، ولكنه قرر ترك العسكرية، وخوض الحياة المدنية، التي بدأها بمعركة تكريس الديموقراطية الطاحنة، مستلهماً "الدروس" من "تمثال الحرية"، الذي أهدته "فرنسا" لأمريكا حفزاً لها على أن تحقق مبادئ الثورة الفرنسة: "الحرية، العدالة، المساواة"، التي خانها القائد "العسكري"/ "نابليون بونابرت" بإعلان نفسه إمبراطوراً! وقد انتهت معركة "واشنطن المدني" بترؤسه لاتفاقية صياغة الدستور الأمريكي القائم إلى اليوم عام 1787م، لينتخب "بالإجماع" أول رئيس للولايات المتحدة 1789م؛ وحكم فترتين، ثم غادر الرئاسة ليموت بعد عامين 1799م!
أما "إبراهام لينكولن" فقد ارتبط اسمه بقرار إلغاء الرق 1863م، الذي توَّج قراراته في سبيل إرساء الحريات المختلفة، بدأها بانسحابه من مجلس الشيوخ 1848م احتجاجاً على اعتداء بلاده على "المكسيك" واحتلال جزء من أراضيها! وقتل في سبيلها بعيد انتصاره في الحرب الأهلية 1865م!
لا فرق بين "مانديلا" والرمزين الأمريكيين العظيمين إلا في مقدار "المشقَّة" حسب الزميل "الصداديقي"/ "أبي الطيب الكذاذيبي":
لولا المشقَّة ساد الناس كلُّهُمُ * الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ!
فإذا كان "واشنطن المدني" قد انطلق من قوة "واشنطن العسكري"، وإذا كان "لينكولن" قد انطلق من قوة الدستور الأمريكي، فإن "مانديلا" قد انطلق من لا شيء، بل من "ناقص كل شيء": فالقوة العسكرية الكاسحة بيد خصمه، والقوة الدستورية المؤيدة من أهم قوى "النظاااام" العالمي: "بريطانيا" و"أمريكا"، بيد خصمه ورجله أيضاً؛ حيث حفلت صور الأخبار على مدى ثلاثة أجيال بركل الجنود البيض للمقاومين السود!
لقد كان "مانديلا" يدرك أنه يقامر بكل شيء دون أن يضمن شيئاً! ولم يكن يدور بذهنه ـ كما قال في مذكراته ـ سوى شيء واحد هو: أنه لا يمكن أن يتنازل عن مبادئه، ويقبل بأنصاف الحلول!