يقول الله عز وجل: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً" الإسراء 79.

كلمات كريمة لو تدبرنا مفرداتها لما خضع الفرد منا لشيء في هذه الدنيا، ولما تكالبت الأرواح والأجساد على متاع الحياة. ما سر هذا السعي وراء المظاهر، حتى وصل إلى حد تملك السلعة للفرد أكثر مما يمتكلها هو، حتى أصبح الإنسان عبدا لشهواته ونزعاته وأشياء دنيوية تحكم سيطرتها عليه؟

إنه نوع من أنواع التشييء أو ما يسمى بالتشيؤ، reification، هو "أحد المفاهيم الفكرية والفلسفية الحديثة، حيث يصبح الإنسان كينونة شيئية متجردا من كينونته الروحية عبر إسقاط مفاهيم السوق والنزعة الاستهلاكية على المفاهيم الإنسانية.."

وهنا تكمن المشكلة! لأننا شعب تعلو فيه العقيدة على آليات السوق، والإنسان العربي في تاريخه وجينه وعروبته وتراثه لا يخضع لسلطة الأشياء، فسلطة العربي على الأشياء هى إحدى سماته التى جعلته ذا تاريخ متفرد ومتميز عمن سواه عبر تاريخ كل الحضارات، لأنه يؤمن بأنه قيمة، فلا يقيَّم أبدا وإنما هو من يقيم الأشاء، باستثناء طبقة العبيد، حيث إن العبد يباع ويشترى ومن هنا أصبح العبد شيئا يقيّم أو سلعة متداولة، وبالتالي كرم الإسلام الإنسان بالحرية ورفع درجته إلى فوق كل ماهو شيء. فكيف تسربت هذه النظريات إلى وجداننا؟ وكيف تمكنت منا؟ فقد أصبح الفرد منا يسعى وراء الأشياء حتى يصبح عبدا لها.

دائما وأبدا الإنسان هو من يكسب الأشياء قيمتها، فإذا أصبح هو قيمة ـ وهو كذلك ـ فهو من يكتسب منه الشيء قيمته. فهذا الكاتب أو ذاك المؤرخ أو هؤلاء الفلاسة تصبح أشياؤهم في المتاحف والمزادات عبر الأزمنة، لأنها اكتسبت شيئا من تاريخه أو من توقيعه أو من ذكرياته على هذه الأشياء، حتى الأماكن تكتسب هذه القيمة إذا ما عبر بها أو مكث فيها. أما إذا تدنت قيمة الفرد أو شعر بالنقص أو بالدونية فإنه يلجأ إلى الأشياء لكي يكسب هو منها قيمته، فهذا ينشئ قصرا فخما، وذاك يتملك سيارة متعددة الماركات وذات الصيت الذائع بين الدول، وهذه تسعى لارتداء المجوهرات والفراء والحلي وأشياء أخرى لكي يُكسِبوا أنفسهم قيمة من خلال هذه الأشياء، وفي هذا الحال يكون الفرد عبدا للأشياء، لأنه أصبح يُقيّم حسب قيمة الشيء نفسه، وبالتالى يصبح البشر عبيدا يكتسبون ذواتهم من خلال القيمة السلعية، وهذه كارثة تفشت في مجتمعاتنا.

إن أول من وضع نظرية التشيؤ هو (كارل ماركس) ويعني بهذا هو "صنمية السلع" أو خنوع الإنسان إلى سلطة الشيء، ومن هنا يكون هو ذاته يتحرك في داخل دائرة لا فكاك منها، وعيا وسلوكا وبنية ونسقا فيما أسماه بنظرية الاستلاب، لأنه يقع في ظل غيبوبة استلابية على كل المستويات.. ثم طورها بعد ذلك (جورج لوكاكش) على المستوى "الأنثربولوجي".

إن الإنسان هو الجنس الأرقى بأمر الله في هذا الكون، وبالتالي أصبح لدينا نزاع كبير بين الإنسان كقيمة وكمخلوق كرمه الله سبحانه وتعالى على سائر المخلوقات، أي على كل شيء؛ وبين هذه الأشياء التي تفرض سلطتها على الإنسان لكي يصبح عبدا لها يكتسب قيمته من خلالها، فيخضع للتسعير والتقييم، فيفقد حريته وهويته وإنسانيته، مما يسبب له العناء والتعاسة والشقاء، لم لا ننظر في أجدادنا وفي حياتهم وفي تعاطيهم للأشياء؟ فهذه فاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام تفارق الدنيا ولم يجدوا في بيتها سوى كيلة شعير! وعندما سألت والدها عليه أفضل الصلاة والتسليم عن خادمة تعينها على أمور بيتها أوصاها بأن تقرأ المعوذتين قبل النوم لتكونا عونا لها على ما تعانيه.. وكيف أنفق أبو بكر الصديق رضي الله عنه جل ماله في سبيل الله وفي تحرير العبيد، ليعلي من قيمة الإنسان ويعلن تدنى قيمة المال وإزاحة سلطته؟ لماذا لا ننظر في حياة ابن رشد والفارابي وغيرهما من أصحاب الفكر والفلسفة كيف كان زادهم هو التفكر والفكر وخدمة الإنسان بالرغم من تضاؤل المستوى المعيشي لهؤلاء؟ إنها ليست دعوة للزهد والتصوف بقدر ما هي إعادة نظر في أمراض مجتمعية متفشية فينا.

إن مفهوم التشيؤ أو الشيئية هو النقيض لمفوم الإنسان الحر سيد الأشياء التي تحكم قبضتها على حركة الحياة.

يقول أحد المفكرين: إنه "صراع الأضداد، صراع المفاهيم.. الاستهلاكي المادي مقابل الروحي. سلطة الشيء ـ سلطة الإنسان.. العلاقات الشيئية ـ العلاقات الإنسانية.. القيمية الشيئية ونزعة التملك والمقايضة مقابل القيمية الإنسانية".

إن خضوع الإنسان في يومنا هذا للأشياء حسب قيمتها السوقية يتفشى بيننا، ويخلق بيننا أمراضا اجتماعية جعلت الفرد ينغلق على نفسه في دائرة مغلقة عن أهله وذويه، ويصل الأمر إلى والديه، فيصيب الفرد منا داء الأنانية وتضخم الذات عند البعض، والسعي نحو المادة حتى يصل الأمر إلى تفضيلها على أهله وأمه وزوجته، وهو لا يعلم أنه أصبح عبدا أسيرا لسلطة المادة، يباع حينما تباع ويشترى حينما تشترى، ويعلو حينما تعلو ويهبط حينما تهبط.. وفي نهاية المطاف يجد نفسه داخل دائرة اغتراب لا يخرج منها، وهذه هي مشكلة الفرد فينا، التي يجب على كل منا التفكير وإعادة النظر للخلاص والفكاك من قيد قد لا ينكسر.