تنزوي أماني الشابة الصغيرة في إحدى غرف مدرسة في وادي خالد حيث يتواجد نازحون سوريون، زوجها فهد يقف عند باب الغرفة حاملا ابنه الصغير الذي لم يتجاوز عمره الثلاثة أشهر، أما هي فتهرب من الصحافة، تلتهي بتحريك طنجرة "الحمص على النار".

أضحك أنا في داخلي "الحمص" ليس بحاجة لمن يحركه عند السلق، أنه محاولة هروب من الصحافة، وجه أماني لا يضحك، يميل إلى الاصفرار، لا شك أنها تحمل قصة مخيفة، أحاول أن أطمئنها أنزوي بها في زاوية الغرفة. ترتاح قليلا إليَّ ويبدأ الكلام، أغرب من الخيال القصة التي ترويها والتي يكملها في خاتمة هذا التحقيق زوجها فهد.

تروي أماني عن كيفية الخروج من درعا "طلعنا من البيت وبقينا أربعة أيام نمشي في الجبال، كانوا يريدون إلقاء القبض على زوجي، كان مطلوبا لرجال النظام من الشبيحة حيا أو ميتا، اقتحموا المنزل، لم يكن موجودا، خطفوا ولدي عمره ثلاث سنوات ونصف، وكنت حاملا، تلقيت ضربات على ظهري، لم أستطع إنقاذ ابني من بين أيديهم، أخذوه معهم، سألت وتوسطت وذهبت هنا وهناك ولم أصل إلى نتيجة وطفلي في مصير مجهول".

وتتابع والدموع تنفر من عينيها وتأبى أن تسقط "بعد أسبوع أحضروه إلى البيت ميتا وأصابع يده مقطوعة، عندما جاؤوا خفت وهربت إلى دار الجيران، لم أعرف أنهم كانوا قد أحضروا معهم ابني جثة وضعوها عند الباب ثم هدوا المنزل أمام عيني، بعد فترة جاء زوجي الذي عرف بالأمر وأخذني معه إلى الجبل، استقبلنا أحد أصدقائه، ولات ساعة مندم إذ سلمه إلى المخابرات في فرع فلسطين، عذبوه كثيرا حتى غاب عن الوعي وسجن ثم خرج وهربته إلى مستشفى في طرطوس وأدخلته إلى هناك بهوية أخيه حتى شفي وجئنا إلى هنا".

وتواصل أماني الكلام "ليت باستطاعتكم الكشف عن جسده لرؤية ما حصل له لم يعد شابا صار كهلا بجسد شاب، من التعذيب أصيب بجلطة وهو الآن ممنوع من حمل أي شيء.

لا تعرف أماني شيئا حاليا عن والدها الذي ما زال في درعا، أما زوجها فهو يتيم، تقول باكية أخاف أن يتربى ابني يتيما أيضا أخاف على زوجي وهو يضرب رأسه بالجدران، تخيلي لم نأكل فروج منذ 3 أشهر ولنا هنا في حياتنا الجديدة أن نأكل فقط الأرز والفاصوليا والعدس أنا أرضع طفلا كيف لي أن آكل النشويات فقط؟"، وتسألنا هل هذه حياة؟".

إنه سؤال كبير وكيف لنا أن نجيب عليها فنسكت. أماني حالة من مئات الحالات الصعبة التي يعيشها النازحون السوريون في لبنان والذين يعانون ويخبئون في دواخلهم الكثير من القصص المحزنة والخيالية، ربما إذ لا يستطيع المرء أن يتصور ما يفعله النظام السوري في حق شعبه. وفي أماكن تواجدهم بعضهم يجرؤ على الإعلان عنها وبعضهم ما يزال يتخفى إذ إنه من الصعب التصديق أن الخطر عنهم قد زال بمجرد مغادرتهم قراهم التي تتعرض للقتل والنهب والتدمير من نظام بشار الأسد، فالخطر عليهم قائم حتى في لبنان.



جولة على النازحين

في جولتنا على مدارس النازحين السوريين في وادي خالد رافقنا عضو مكتب الإغاثة السورية صهيب العكاري، السوري الجنسية من بلدة تلكلخ في جولتنا التي طالت منطقتي وادي خالد وجبل أكروم على اللاجئين السوريين. صهيب الذي أصبح مشهورا من قبل معظم وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية، صار مستشارا إعلاميا للجميع، ملم بكثير من التفاصيل الصغيرة في أماكن تواجد النازحين في الطرق والدروب المختلفة التي يحاول النازحون اللجوء إليها في رحلة النجاة من نظام القتل في سورية الى البلدات اللبنانية المجاورة للحدود، وصهيب أيضا صديق الأطفال في المدارس والبيوت وفي مراكز ومستوصفات تعنى بصحة اللاجئين.



إغاثة المغيثين

يشير صهيب إلى أن منطقة وادي خالد تاريخيا كان سكانها يعتمدون في عيشهم اليومي على تجارة التهريب لا سيما مادة المازوت والمواد الغذائية والكهربائية لكن الآن بعد أن أغلق نظام بشار الأسد الحدود بالألغام ونشر على تخومها عناصر الهجانة وحرس الحدود ولاحق بالنيران كل من حاول العبور مما أدى إلى استشهاد بعضهم أحيانا وإصابة آخرين أحيانا أخرى، فإن عمليات التهريب توقفت وهذا أثر سلبا على الوضع المعيشي للناس، إذ يكفي أن نذكر على سبيل المثال أن اللبناني كان يشتري ربطة الخبز من سورية بـ15 ليرة سورية بينما ثمنها في لبنان 2000 ليرة، يعني أن أهالي الوادي اليوم صاروا بحاجة إلى إعانة كما هو حال النازحين، لا سيما وأن بعضهم لم يعد يستطيع زراعة أرضه أو استصلاحها بسبب إطلاق النار المستمر من قبل العناصر الأسدية".

ولا يتوقف صهيب عن تأكيده بأن "أهل الوادي استضافوا النازحين السوريين من حمص ومن محافظات أخرى، هؤلاء النازحون الذين اتهمهم شبيحة النظام بأنهم إرهابيون وسلفيون ودمر وأحرق ونهب منازلهم وممتلكاتهم ستتعرفون إليهم الآن".

صهيب ابن بلدة تلكلخ، خرج منها وساعد آخرين على النجاة بعد اقتحام الجيش للبلدة التي تظاهرت ضد النظام طلبا للإصلاح والديموقراطية وكان من الدفعة الأخيرة التي تركت البلدة وعبرت النهر الكبير بعد إغلاق الجسر للمارة ولسيارات "البيك آب" و"الفانات".



الهجانة مع الثورة سرا

الصعوبات التي يواجهها الأهالي بالعبور يمكن أن تحل أحيانا بدفع مبلغ مقداره عشرة دولارات لعناصر الهجانة السورية، إذ إن معظمهم من الأكراد المعارضين للنظام ضمنا والمتعاطفين مع الثورة ولو سرا، ويشير الى أن أول شهيد في الثورة السورية كان عنصرا من الجيش أعطي أوامر لإطلاق النار على المتظاهرين في تلكلخ فرفض وقتل برصاصة في رأسه وأشاع عنه النظام فيما بعد أنه انتحر، هذا ما يفصح عنه صهيب ليشير إلى أنه أحيانا يشعر بكثير من الخوف عندما يتحدث للصحافة لا سيما على أخواته اللواتي بقين في البلدة واختبأن ولم يستطعن العبور".

التعاطف مع النازحين كبير على حد ما يقدر صهيب، مشيرا إلى أن بعض الأهالي يقدم مساعدات مالية لكنها قليلة لمساعدتهم ومن أجل معالجة الجرحى الذين يصابون على الحدود وبعضهم إصاباته تكون خطرة ويتعرضون لنزيف حاد من جراء بُعد المسافة للوصول إلى مستشفى في طرابلس".



حذر وخوف

بالقرب من الحدود في المنطقة اللبنانية المقابلة لتلكلخ الوضع مخيف بعض الشيء إذ لا يمكن المغامرة بالتقاط صور أو الانكشاف على المركز العسكري لجيش النظام الأسدي المرابط هناك ولذلك لا بد من سرقة الصور من نافذة في أحد المنازل المقابلة ومع ذلك فالأهالي يخافون من انكشاف الأمر وتعرض المنطقة للرصاص، لذلك كنا حذرين جدا لدى تقدمنا.

وفي الهيشة لاحظنا وجود أعداد من النازحين تنتظر أخذ مساعدات من "جمعية الإرشاد" وهي مساعدات عينية عبارة عن "مخدات" وسائد ومواد غذائية. ويوضح عضو الجمعية بهاء دعاس لنا أن المساعدات التي تقدم هي مواد غذائية لا تكفي في معظم الأحيان".

ويوضح دعاس أن "وضع النازحين في البداية كان غير منتظم وعشوائي لكن بدأ تنظيمه بعد افتتاح مكتب الهيئة السورية ـ اللبنانية منذ شهرين وبعدما تبين الحاجة إلى هذا الأمر".



نازحون من بابا عمرو

في مدرسة المونسة في جبل أكروم التقينا مهى عثمان وهي مع عائلتها نزحت من بابا عمرو بتاريخ 2/ 1/ 2012 وتوضح أن سبب نزوحها هو انشقاق ابنها عن جيش الأسد وانضمامه إلى الجيش الحر وتقول بصوت خافت وكأن أحدا ما سيسمعها وأنها تهمس بالسر فقط لنا "تم تهديده وقالوا له سوف نأخذ زوجتك وابنك عندها قلت له يجب أن تهربهما وهكذا كان جئت في البداية مع زوجة ابني وولدها ومن ثم أحضرت أولادي وأصبح عددنا 7 أشخاص هنا".

وتضيف "تعذبنا كثيرا حتى وصلنا إلى هنا، مشينا أكثر من 12 ساعة من القصير إلى هنا، خرجنا من دون أن نأخذ معنا أي أغراض شخصية، وكان أكثر ما يقلقني هو أولادي الذين بقوا في الداخل ولا أعرف عن مصيرهم أي شيء".

وتشير إلى أنها لا تعرف عن ابنها المنشق أي معلومات وترفع عينيها إلى السماء قائلة "الله يفرجها عليه وعلينا والله يحمي "الجيش الوطني الحر" ويعدّمنا بشار الأسد، أنا أدعو عليه بالليل والنهار أن يذوق ما نتذوقه من عذاب". وتوضح "لي أولاد ما زالوا في الداخل الله يحميهم".

في المدرسة تسع عائلات موزعة، خمس في الطابق الأول وأربع في الطابق الأرضي ولا يوجد فيها سوى النساء والأطفال. تسأل عن الرجال فتجيب مهى أن زوجها وولداها ذهبوا للعمل في صب الباطون لسقف أحد المنازل في البلدة وهذا أفضل من أن يبقوا من دون عمل".

وتضيف "نريد أن نعيش بكرامة". أما جارتها رزان فتصف الأوضاع في سورية بـ"الصعبة وتقول إن زوجها مع الثوار"، مشيرة إلى أنها جاءت من بابا عمرو هربا عبر طريق القصير".

وتقول لنا "لم أكن أتوقع أو أتخيل حتى أن يحصل في سورية ما حصل لقد كان صعبا عليّ أن أترك بيتي وداري".

وعندما تسألها عن إمكانية الاتصال الهاتفي بأهلها للاطمئنان قالت "الهواتف مقطوعة حكيت معهم مرة واحدة فالشبكة السورية مقطوعة ونستعين بالشبكة اللبنانية أحيانا".

وعن حاجيات النازحين غير المؤمنة تشير إلى عدم وجود "حليب للأطفال وفوط صحية، إذ غالبا ما نفتقد هذه المواد بالإضافة إلى الأدوية، والمستوصف بعيد جدا عن المنطقة".

وتسألها عما إذا كانت مرتاحة في لبنان تجيب "كيف نرتاح وبلادنا ووطننا يعيش هذه الأحداث؟".



"سورية بدها حرية"

أصوات الأطفال وزعيقهم تملأ أجواء مدرسة وادي خالد، تعود الأطفال هنا على الزائرين الأغراب، يأتون ليتفقدوا أوضاعهم. لبنانيون وأجانب، صحافة ومؤسسات أجنبية وهيئات إغاثة، ما إن شاهدونا حتى بدؤوا يهتفون "سورية بدها حرية"... و"ارحل.. ارحل يا بشار".

من إحدى الغرف يتعالى صوت مغني الثورة وصفي المعصراني "يامة مويل الهوا"، هنا كل شيء مختلف، جميع الأطفال الصبيان قصت شعورهم القصة نفسها، قصير من الوراء وغرة واقفة بـ"الجل" من الأمام، هؤلاء الأطفال ترى في أعينهم شجاعة مختلفة، يضحكون ويتحدثون دون خوف، ومع ذلك فإن لديهم حساسية مختلفة سرعان ما تلاحظها، عندما يأتي حديث عن الداخل السوري.

الطفل عثمان تسجل في مدرسة لبنانية وما زال يتابع دراسته ويقول إن "قمع النظام دفع أهله اضطراريا للمجيء إلى لبنان".

تركض والدة عثمان نحونا خائفة من شيء ما، لكنها سرعان ما ترتاح لنا وتكشف عن سرها "مات ولدي شابا، قتلوه وعمره 27 عاما". نستغرب صرختها وكيف أن عثمان لم يحدثنا عن هذا الموضوع، نسألها "أين قتل؟" فتكرر "محمد عمره 27 قتلوه في منزلنا".

وتجيب والدته "قتله الشبيحة"!. كيف؟ ترد "نحن هربنا إلى هنا والده والعائلة وكان معتقلا، قالوا لي إنه خرج من المعتقل، عبرت النهر وكدت أغرق لأذهب لأراه".

نسألها عن عدد أولادها تجيب بحسرة "كانوا ستة صاروا خمسة"، وتكمل "أنت لا تعرفين ما معنى أن يموت الابن البكر ربّيته وأحببته، عندما رأيته شعرت بالشلل في قدمي تمنيت أن أموت".

وتلتفت إلى عثمان تطلب منه إحضار "الموبايل" من والده لترينا صورة محمد، يذهب عثمان ونرى شابا في عمر الورود، نسألها لماذا برأيها قتلوا محمد، فتجيب "لأنه شارك في التظاهرات هو شاب ودمه حامي".



تهمة الإرهاب

ولفاطمة المقيمة في المدرسة قصة أخرى، هي أيضا خاطرت بعبور الجسر بعد إقفاله وانتقلت من مكان إلى آخر حتى استقرت في المدرسة مع أفراد عائلتها المكونة من 6 أشخاص وفاطمة من بلدة العريضة، تحمل هما كبيرا اليوم تسألها عن همومها فتقول "رغم أننا تهجرنا إلا أنني أرغب في دفع مال للمحامي الذي دافع عن زوجي وأخرجه من السجن إذ إنه كان متهما بالإرهاب".

فاطمة تعتذر لأنها تطبخ وعليها إنهاء الطعام، تدخل إلى الغرفة لتشاهد طنجرة فيها "ملوخية" من دون لحمة تعبق رائحتها في المكان.

بالقرب من غرفتها وفي المدخل يقف جارها فهد، أيضا لفهد ابن الثلاثين عاما قصة غريبة، فهو اعتقل وعُذب وخطف ابنه الطفل وتم قتله بدم بارد وهو حاليا مريض لا يتلقى العلاج المناسب.

يقول فهد "قتل ابني كان رسالة مخيفة من النظام الأسدي لأني شاركت في التظاهرات في درعا، وقد اتهمت بأنني إرهابي لأنني كنت أهرب الخبز والماء والحليب إلى درعا المحاصرة، وقد صبوا لي خلال محاكمتي الخبر ذخيرة والماء قنابل والحليب سلاحا نوويا وحكموني بثلاثة إعدامات". أما رحلة مجيئه إلى لبنان فقد استمرت أربعة أيام في الجرود والجبال".