تقول الحكاية: "إن رجلاً علّم ولده السباحة على الفراش.. فلما ذهب به إلى النهر، غرق الولد، فصاح أبوه غاضباً: (أما علمتك؟!)، فأجابه الولد وهو في النفس الأخير: يا أبي إن الناس لا يتعلمون السباحة على الفراش!!".
الحكاية السابقة في تصوري تعكس حقيقة التعليم في مجتمعنا، سواء كان التعليم في المدارس أو في الجامعات والكليات، فأسلوب التعليم لا يخلو عن كونه مجرد تلقين، كمسلك الكتاتيب في الماضي، وهو مسلك المعلم الذي يلقن التلاميذ بعض دروس القراءة والكتابة فقط، ناهيك عن انفصال التعليم عن مشاكل المجتمع واحتياجاته.
ولعلني لا أبالغ إن قلت أننا ما زلنا في عصر الكتاتيب، والمختلف فقط أن الطلاب أصبحوا اليوم يكتبون على شاشة الكمبيوتر أو على أوراق الدفاتر بدلاً من الألواح الخشبية.
قد يعترض كثير من الناس على ما ذكرته آنفاً، ويقولون: "إن هناك جهودا حثيثة لتطوير مناهج التعليم لتكون مواكبة للتطور المعرفي والتقني، بالإضافة إلى تحقيق عدد من الجامعات السعودية مراكز متقدمة في عدد من التصنيفات العالمية، فكيف تقول إذن إننا ما زلنا في عصر الكتاتيب؟!".
صحيح أن هناك جهودا وحرصا على جودة التعليم من قبل المؤسسات التعليمية في المملكة، وأن هناك سياسات تعليمية حديثة بدأت تطبق مؤخراً، ولكن لا يعني ذلك أن نغض الطرف على مشاكل التعليم الحقيقية، كما أننا ما زلنا في طور تجربة تطبيق هذه السياسات.
لنأخذ على سبيل المثال تطوير الكتب المدرسية وتطوير أساليب التعليم، فصحيح أنها تغيرت عن السابق، وفيها تم اختصار المعلومات بالإضافة إلى وجود وسائل بسيطة لإيصالها إلى ذهن الطالب أو الطالبة، ورغم وجود هذا التغيير فإن أسلوب التلقين والحفظ هما سيدا الموقف في العملية التعليمية، حتى أن المواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، أصبح الطالب يحفظ المعادلات والقوانين دون إدراك لدلالتها والهدف منها، وحتى وإن فهم أسلوب القياس!، وقد يشترك في ذلك المعلمون أيضاً.
فلو سألنا الطلاب والمعلمين، ما الفائدة من تعلم المعادلات الرياضية، وحساب التفاضل والتكامل، وحساب المثلثات، تكون الإجابة في الغالب: أن الرياضيات بشكل عام مهمة في علم الهندسة والحاسب الآلي وعلوم الطيران..الخ، ولو سألناهم: لماذا هي مهمة، وكيف يكون ذلك؟، للأسف ربما الكثير لا يعرف الإجابة، والمهم أن يحفظ الطالب دروسه وينجح في آخر العام، وهذا هو المطلوب، ونقيس على ذلك باقي المقررات المدرسية الأخرى، فمثلاً مادة التاريخ اختصر فيها كثير من المعلومات، فالمهم في هذه المادة أن تحفظ الأحداث التاريخية كاسم المعركة وتاريخ وقوعها ومن انتصر فيها؟، بغض النظر عن أبجديات علم التاريخ التي تقتضي فهم المبادئ والأدلة التاريخية وأسلوب التحقق من المعلومة، وكأن لسان حال الطلبة يقول عن بعض المعلمين والمعلمات:"إنهم يتحدثون كما لو كانوا أمواتاً، ويجعلونك ترغب في النوم، وعندما تنام يغضبون، لكنك لا تستطيع أن تقاوم النوم، لأنهم يتحدثون كما لو أن أحدهم أجبرهم على أن يكونوا هنا!"، لذا لا عجب أن نرى الطلبة يكرهون المدرسة ويرونها مثل السجن أو المعتقل، بسبب طريقة الكتاتيب والتزمت والتشدد معهم.
أما في الجامعات والكليات، فإن الوضع لا يكاد يختلف عن التعليم العام في المدارس، فما يتعلمه الطالب في الجامعة أو الكلية يبتعد كثيراً عن متطلبات سوق العمل واحتياجات المجتمع، والكتب التي يتم تدريسها لا يستطيع الطالب استيعاب فحواها، فهي في الغالب إما مترجمة، أو معربة ومنقولة، فيلجأ الطالب أو الطالبة إلى الحفظ في معظم الأحوال، ناهيك عن أن الطلبة في الأساس متخرجون من التعليم العام وهم قد درجوا على الحفظ والتلقين، وبالتالي يصعب عليهم تغيير هذا النمط من التعليم.
ومن المخجل حقاً أن نجد بعض أساتذة الجامعات يدربون الطلبة على إجراء البحوث العلمية تدريبا مغلوطاً، فهم يعلمون الطلبة كيف يراعون شكليات البحث والاهتمام بالتصنيف المصطنع والتسلسل المنطقي وترتيب المقدمة والخاتمة ومن ثم النتائج والتوصيات.
لذا لا غرابة أن نجد كثيرا من البحوث إما أنها منقولة حرفياً في مجملها، أو تجد فيها تلفيقا في الإحصائيات والتلاعب في عينات الدراسة، والأدهى والأمر من ذلك عدم الاهتمام بالبحوث العلمية حتى أن بعض الأساتذة يقيم البحث من خلال كمية عدد الصفحات المكتوبة، فكلما زاد عدد صفحات البحث زادت درجة التقييم، وكل ذلك يدخل في إطار الحفظ والتلقين.
للأسف الشديد نحن نلقن طلابنا معلومات لا صلة لها بحقائق التنمية ومشاكلها، ونحشو أدمغتهم بمبادئ ومصطلحات لا يفهمون دلالتها، ولا نبين لهم مجاري هذه المبادئ في الحياة العملية، وفي هذا الصدد يقول أحد علماء الاجتماع إن" المدرسة لا تتقن إلا طلاء الإنسان ولا تزوق إلا مظهره، أما لباب نفسه وأعماق عقله فالمدرسة لا تمسها إلا قليلاً"، وهذا الكلام صحيح إلى حد كبير، فالطالب يتخرج من الجامعة وهو ضعيف علمياً ومهنياً، ويصطدم بصخرة الواقع عند أدائه لوظيفته، ومن يشكك في هذا القول، فعليه مراجعة خطط التنمية وليرى بنفسه تحديات التعليم العام والعالي، التي تضمنت عدم مواكبة مخرجات التعليم لسوق العمل.
لست هنا بصدد إلقاء اللوم والمسؤولية على المعلمين والمعلمات والأجهزة التعليمية فهذا الأمر يتعلق بثقافة وقيم المجتمع بأكمله، وهناك حاجة ملحة إلى إعادة النظر حول الكفاءة الداخلية للنظام التعليمي ولتكن البداية من المرحلة الابتدائية، مع الأخذ في الاعتبار الصفوف الأولية التي تستلزم وجود معلمين أكفاء يتمتعون بدرجة عالية من التأهيل، لأن هذه الصفوف تعتبر النواة الرئيسية للتعليم، بحيث يتم التركيز على تعليم الطلبة كيف يتعلمون وكيف يناقشون ويفكرون وكيف يبحثون ويدرسون بدلاً من التلقين والحفظ وأسلوب التشدد والصرامة معهم.