لماذا تحول بعض الوعاظ لدينا من مجرد أفراد مشغولين بعباءات الكتف وعباءة الرأس، ومن وعاظ يمتلئ تاريخهم بالخطب الرنانة عن الغزو الفضائي والمجلات الهابطة والسفر لبلاد الغرب وسماع الموسيقى؛ إلى سياسيين وحقوقيين ومنشغلين بقضايا حرية الرأي، ومستميتين في الدفاع عن أي نقد يوجه للرئاسة المصرية أو للإخوان المسلمين في مصر؟ كيف خلعوا عباءة الواعظ رغم ما كان يعتريها من رقع، ولبسوا عباءة المناضل السياسي رغم ما تبدو عليه من انتفاخ؟ لكن الواقع يقول إنهم حين كانوا منشغلين بتلك الخطابات لم يقدموا شيئا مجديا، وحين اتجهوا لهذه اللغة الجديدة الآن أيضا لم يقدموا شيئا ذا بال.
إننا أمام لحظة فرز مهمة بين الفقيه الحقيقي الذي وإن اختلفت معه إلا أنه يظل مخلصا لسلفيته الحقيقية، مستوعبا لمسؤوليته الدينية والأخلاقية، وبين من كان خطابهم مجرد مرحلة وبحث عن المجد والانتماء الحركي.
يرى كثير من الحركيين أن الدنيا ابتسمت في وجوههم أخيرا بعد وصول حركات إسلامية إلى الحكم كما هو الحال في مصر وفي تونس، فتحولوا الآن من مواجهة الفكر إلى مواجهة السياسة، فحين كانوا يعيشون تحت وطأة أنظمة أعملت فيهم أدوات القمع والمطاردة والاضطهاد كانوا يستترون خلف الغطاء الاجتماعي والفكري خوفا من السياسي وقوته، فلقد اقتصرت كثير من أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في مصر في السنوات الماضية على العمل الاجتماعي والخيري، إضافة إلى المواجهات الفكرية مع التيارات والتوجهات الأخرى.
القضية تكمن في أتباع تلك التيارات في بلدان الخليج العربي، حيث ظل الإخوان كحركة يمثلون نوعا من الصدى الفكري للحركة الأم في مصر، أما في داخل بلدانهم فقد أشغلوا أنفسهم ببعض القضايا التي لا تمثل اهتماما ملحا للإخواني في التنظيم الأم، فظهرت طبقة من الإخوان يشتركون في معارك حول سلوكيات كالحجاب وقيادة المرأة للسيارة والأغاني والسينما وغيرها من القضايا التي تجاوزها الإخوان الأصل، كل ذلك لإيجاد نوع من الانتماء إلى واقع الخطاب الديني في بلدانهم.
مع أن ذلك لا يلغي القول إنه وفي بعض بلدان الخليج مثلا تشكلت طبقة من الإخوان الذين يمثلون مزيجا بين توجه سلفي وآخر حركي، بمعنى أنهم مثلوا كائنا ثالثا يحمل من الصفات الجينية لكلا التوجهين ـ يطلق البعض على ذلك الهجين توصيفات كالسرورية مثلا ـ والذين انغمسوا في خطاب متشدد وحركي. هذا التيار مثل خطورة على مستوى الجماهير وعلى مستوى خلق جيل جديد، فلا هو بالإخواني العميق الذي لا يلقي بالا للجوانب السلوكية والذي قد يؤمن بمستوى يسير من الحرية الشخصية، ولا هو بالسلفي الأصيل الذي يركز على الشعائر ويحرص على قضايا العقيدة والتوحيد. يتضح هذا الفرق بين المستويين حين ننظر إلى الانتقادات التي تصدر عن الإخوان الأصل، فنجدها تدور حول قضايا السلطة والحكم والديمقراطية، بينما تدور مواقف إخوان الخليج حول ما يسمونه التغريب وحول قضايا كملفات المرأة والتعليم. هذا الخطاب هو الذي أوجد مستوى غاية في التشدد لدينا، إذ يمكن أن تتشكل خلايا إرهابية لمواجهة التغريب، مثلا: (خطابات القاعدة في جزيرة العرب تختلف عن خطابات القاعدة في غيرها من حيث مبررات المواجهة والخروج على الدولة) أدرك الحركيون في ظل الواقع الجديد بعد الثورات أنهم ظلوا حركيين لقضايا سطحية وساذجة، تجاوزها المجتمع أصلا ولم يعد يستمع إلى من يعظونه بشأنها، وبخاصة القضايا السلوكية وقضايا الحريات الشخصية.
هنا اتجه الحركيون لإدراك أنفسهم واستبدال قضاياهم الاجتماعية بقضايا سياسية، لكنهم لم يجدوا إلا قضية المعتقلين للنفخ فيها وتحويلها إلى قضية يجربون فيها مصطلحات الثورة والحقوق والحريات السياسية، في تقليد بغيض وغير بريء لمشايخهم من الإخوان الذين باتوا الآن سادة وحكاما. ومع ذلك فلا يزال الإخوان في الخليج يعيشون ورطة ثقافية وفكرية حين يأتي الحديث عن الحريات وحقوق المرأة والمساواة والموقف من الأقليات والموقف من التنوع المذهبي، ذلك أنهم لا يملكون خطابا دينيا راقيا قادرا على تقبل هذه القضايا، فهم تقليديون فكرا ورؤية.. حركيون سياسة ومنهجا.