"صِبا طاهر" اسمٌ جديد يفد إلى عالم الكتابة المنشور بعد أنْ تخمّر استواءً ونضجا في شعاب الإنترنتْ؛ ذلك الفضاء الذي تتخلّق فيه كائناتٌ إبداعيّة تصنع المشهد الثقافي في السعوديّة بحساسيّة مختلفة وإضافة مفارقة للمتن السائد، تنهل من معطياتٍ يوفّرها الفضاء الافتراضي بمروحةٍ ملوّنة تتجاور فيها هِباتُ الانفتاح على أشكال إبداعيّة تمتدّ من الكتاب الإلكتروني العابر لمسطرة الرقيب إلى الأفلام السينمائيّة الإبداعيّة ـ خارج الرائج الأمريكي ـ ومثلها في الفن التشكيلي والفوتوغرافي والذخائر الموسيقيّة تخطف الروح، مرورا بشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الأدبيّة والمنتديات الثقافية؛ وما تمنحه من حريّةٍ تفتّق جمرة الكتابة فيزهر حرفُها.

تمثُلُ صِبا طاهر في المشهد الإبداعي السعودي بكتابها الأول "ما من يدٍ على وجهي" (طوى للثقافة والنشر والإعلام، بيروت ـ 2012) وهي تتأبّط تجربةً عن الداخل الإنساني لفتاةٍ تقفُ خلفَ قضبان النافذة مفصولةً عن الحياة العامة وموجِها الصّاخب والمتدافع في مجرى الوقائع اليوميّة. تنسج هناك، من حيث تقف، طيّارتها الورقيّة تقذفُها في المهب؛ تحملُ وجعَ العتمة ملفوحاً بالفقدِ، وبإمكانٍ يزيّنُهُ رسولُ الهواء يحتشدُ بالنغم الأسيان وبوعدٍ يخضرّ في الكلمات وفيها أيضا يختلج. تلك المركبة الهوائيّة؛ وِسادةُ الانطلاق ومدفنُ الأسرار: (جاهزةٌ لبكاءِ القلب،/ لكلمةٍ تكسرني فجأةً،/ جاهزةٌ لوجعِ الحنينِ،/ ولحزنٍ ساخنٍ/ يندلقُ بين الضلوع،/ ولفقْدِ أصابعي في عضّةِ ندمٍ،/ روحي جاهزةٌ، وتنتظرُ/ الألمَ الذي سيأخذُها إلى العدم).

الشاعرةُ لا تبرحُها الحيرةُ من مكانها وحقيقتِهُ التي تنطوي على بشاعةٍ هي والعدمُ سواءً بسواء (أبدو وكأنني بنيتُ حياتي على مقبرة). الإقامةُ في الصمم واللاأبالية من حولها، تشكّكها في نجاعة الكلمات وأن هناك صدًى تحفرُه الحروف في وجودٍ مغلق سميك (ماذا سأفعل بالكلمات؟/ إذا كنتُ أنادي العالمَ/ من خلف الجدرانِ ولا يسمعني؟). إن نبرةَ اليأسِ من الحياة الخارجيّة واندحار الأمل معه يصقلُ البحثَ باتجاهٍ آخر، لا يحضر فيها هذا الخارج إلا كظلٍّ منزوفٍ، فيما السّبْرُ ينتقل إلى أرضيّة الذات في موقعها قبالةَ محيطها، وما يجري على أديم هذه الذات من انفعالاتٍ وأحوالٍ تجري من النقيض إلى النقيض، وفي تبادلٍ صارخٍ يخضّ بوصلةِ التلقي فيحيلُها إلى همودٍ. اللاأبالية تخلق محطّتها المناظرة، والاستراحة من حمل عبءٍ؛ لا يفتأ يتكاثر فيبهظ لتنقضَهُ بانخلاعٍ يجاوزُهُ ولا يستقرّ عندَهُ. تنطلق مع مركبتِها، لا تبالي لكنّها لا تتبلّد (يخيفني هدوئي هذا، غريبٌ تصالحي مع كلّ الكائنات هذه اللحظة/ ليس سعادةً ما أحسّه، ولا حزناً،/ ليس أملاً ولا خوفاً من الآتي،/ ليس رغبةً في الموتِ ولا حبّاً للحياة،/ قلبي لا يرتجفُ، لا يهربُ،/ إنّه يتحوّل إلى سنابل،/ حقولَ سنابلَ تلمسّها بحنانٍ يدُ الريح).. (الهواءُ الذي يعبرُ النافذةَ،/ يعرفُ لسعةَ الكهرباءِ أعلى السور./ أرسلُ معهُ بكاءَ روحي/ للعصافيرِ الميتةِ هناك).

الوعيُ الحادُّ الشقيُّ بالمأزق واستحالةُ الانفكاكُ منه، قد يفترضُ تسليماً بصخرتِهِ الراسخة المتعذّر زحزحتها، سوى أنها لا تكتبُ استسلاما. مع المعرفةِ بالطابع القدري وإحكامِ السورِ الاجتماعي. ثمّة فضاء آخر تقتحمُه الكلمات ينبضُ فيها سرُّ الزهرةِ واختلاجُ الغيمِ بالمطر (كلّ ما أملك أن أتفيّأ بظلِّ الكلامِ،/ وأني سأظلّ أتبعُ شياطينَ قلبي الصغيرة،/ حتى النهاية).

نداءُ شياطين القلب الصغيرة والإصغاءُ إلى غوايتها عبرَ بوّابةِ الكلام، صنعَ في هذا الكتاب نصوصاً باهرةِ التأثير الجمالي؛ تذكّر بالمسِّ السحري الذي نقرأه في شعر أو كلمات نساءِ العالم في تراث الشعوب، يلمس شغافَ القلب برهافتِهِ وبساطته وفي الآونةِ نفسها يؤشّر على عمق المشاعر المختزنة والمختزلة في طيف الكلام (آخرُ ورقةٍ،/ في شجرة الخريف الصفراء أنا،/ أسقطُ على مهلٍ، على مهلٍ،/ مرتجفةً خائفةً،/ أهمسُ للريحِ الباردةِ،/ لن يأتي هذا الشتاء أيضاً./ لن يضمَّنِي حبيبي!).. (خدشٌ صغير،/ هذا الذي تركتَهُ في قلبي، وذهبتَ/ لم أشعر لحظتَها به/ لكنْ الآنَ،/ دمي يؤلمُني،/ كما لو أنّه يحمل سُمَّ العالمِ كلّه).

.. وتبقى لي ملاحظة أنّ نصوص الكتاب لم تأتِ على سويّةٍ واحدة من حيث الإبداع والتدبير الفني، إذْ لم تقم الشاعرة بعمليّة غربلة وتصفية وتشذيب لأعشاب من الخواطر النيئة والمباشرة التي فاقمت حجم الكتاب ليصل إلى ما ينوف على مئة وخمسين صفحة، وكان في إمكانها أن تختصرَهُ بما يحتفظُ بتوتّر الكتابة وأثرِها الجمالي.

* كاتب سعودي