في صورتها المثالية على الأقل تعني الديموقراطية أن يتحمل "الجميع"، جميع المواطنين، مسؤولية اتخاذ القرار في الشؤون العامة لمجتمعهم. هذه المسؤولية يمكن توزيعها على مستويات متعددة تبدأ من المسؤولية المباشرة في الحي الذي يقطنه الناس وتتدرج إلى مسؤولية عامة تشمل القرارات التي تتعلق بالمواطنين. عمليا تتم هذه العملية من خلال المشاركة اليومية في المجال العام من خلال مؤسسات المجتمع المدني ومن خلال اختيار ممثلي المجتمع في المؤسسات التشريعية وأيضا من خلال النقاش الإعلامي العام حول القضايا العامة. دعواي هنا هي أن هذا الشكل من العلاقة الاجتماعية يؤدي في غالب أحواله إلى "عقلنة" المجال العام في المجتمع الديموقراطي. بمعنى أن النقاش والتفكير في المجتمع الديموقراطي يطبعه طابع العقلانية، وعلى نقيضه فإن المجال العام في مجتمعات الاستبداد، إن كان هناك أصلا مجال عام، فهو مجال لا عقلاني بالضرورة.
الحجة وراء هذه الدعوى يمكن وضعها في شكلها الأبسط كالتالي: الديموقراطية تكفل الحرية والمساواة للجميع في نقاش قضاياهم العامة، فحق حرية التعبير من الحقوق الأساسية في المجتمع الديموقراطي. المحاججة هنا تقوم على أن الأفراد حين يتواصلون في ساحة تكفل حرياتهم المتساوية فإنه لا مجال للتواصل بينهم إلا التواصل العقلاني القائم على محاولة إقناع الآخرين وبذل الجهد في صياغة خطاب مفهوم ومقنع للآخرين. ولذا فإن المجال العام كما تقول حنة أرندت، هو مجال "الكلام والإقناع، لا مجال العنف والفرض". في هذه الساحة الآمنة لم يعد هناك خيار لأي أحد إلا الإقناع ودخول حلبة الحجة بالحجة. لنتذكر أن الخيار الثاني هو أن يستخدم طرف من الأطراف العنف لقمع الآخرين وإبقاء صوته على أنه الصوت الوحيد. في هذه الحالة نخرج من الدائرة الديموقراطية إلى دائرة الاستبداد.
في المقابل يلعب مفهوم حياد الدولة دورا هائلا في عملية عقلنة المجال العام. الدولة هنا، متمثلة في المؤسسات العامة التي تملك من القدرات والإمكانات ما لا يتوافر للآخرين، عامل جوهري في عقلنة المجال العام أو تحويله إلى مجال معاق. حياد الدولة يعني أن الجدل الاجتماعي يسير بشكل طبيعي على أنه محاولة إقناع مستمرة بين الجماعات المختلفة. تدخل الدولة بقوتها لصالح طرف دون الآخر هو قطع لهذا الحوار الاجتماعي وإدخال للقوّة في النقاش. إذا دخلت القوّة انسحبت الحرية وتضاءل الأمان وحل الخوف. السلطة مطالبة فقط بتوفير الفضاء الحر الآمن للناس ليديروا أمورهم، لذا فهي تتدخل لمنع العنف أو لمنع من يريد أن يمنع الآخرين من المشاركة في الجدل العمومي لأي حجة من الحجج.
نتذكر هنا مقولة مهمة لجون رولز، وهي أن الحق مقدّم على الخير. بمعنى أن حق التعبير والمشاركة والمساواة مقدّم على ما يعتقد المجتمع أنه خير أو شر. بمعنى أنه لو افترضنا أن غالبية المجتمع أو الصوت العالي فيه يرى أن الحديث في قضية معينة شرّ يجب منعه، وفي المقابل سيكون هذا القرار على حساب حقوق الآخرين الأساسية في التعبير والاختلاف. في الديموقراطية يجب أن يقدم الحق على مفهوم الجماعة للخير، لأن هذا أولا حق أصيل لا يلغى لمجرد رأي اجتماعي متحرك ومتغيّر، كما أنه ضمانة من دكتاتورية الغالبية التي لا تختلف في معناها عن دكتاتورية الفرد. النقاش الحر لا يعترف بحظر الحديث في قضايا معينة. المحظور هو محاولة قمع الآخرين أو استخدام العنف أو حسم الجدل لا عن طريق الخيارات الحرّة للأفراد بل عن طريق العنف.
إذا كانت هذه هي المعادلة العامة فإن التطبيق على أرض الواقع مشكل جدا. بمعنى أنه في كل مجتمع خطابات لا عقلانية؛ بمعنى إما أنها خطابات تدعو للعنف أو أنها خطابات مغلقة تحتكر مفهوم الحقيقة وتشارك كداعية لا كمحاور. بمعنى أنها الجماعات التي لا تدخل المجال العام للدخول في الجدل كطرف من الأطراف بل تدخل كجماعة تمثل الطرف الأوحد والخيار المتبقي للجماعات الأخرى أن تتبعها وتؤمن بها. هنا حياد الدولة يأتي عاملا مهما في هذه القضية، فبالنسبة لدعوات العنف فإنها تراقب بشدة حتى يأمن الناس منها، بحيث تبقى مجرد كلمات لا يمكن أن تتحول إلى أفعال. بالنسبة للجماعات المغلقة فإن حياد الدولة وكفالة حق التعبير والحريات الأخرى كفيل بجعل هذه الدعوات هامشية ما لم تنفتح على الآخرين. بمعنى أن تشريع القوانين في الدولة الديموقراطية لا يستند على إيمانيات معيّنة، بل على نفعه للمجتمع، أي أنها لا يمكن تشريع قرار معين لأن الفيلسوف الفلاني قال كذا، هذه مرجعيات غير مقبولة، المرجع المقبول هو أن تقنع الآخرين بأن هذا القرار نافع للأفراد والمجتمع ولا يتعدّى على حقوقهم الأساسية. هذه معادلة كفيلة بعقلنة الخطابات الاجتماعية أو خروجها من الساحة العامة لساحتها الخاصة.
الساحة العربية، في بلاد الثورات، بأمس الحاجة إلى عقلنة المجال العام، لأنه شاهد على حرية الناس ومشاركتهم، فيصنع حياتهم كما أنه شرط أساسي لدخول العلم، بمفهومه العام، في التفكير العام. أي أن يفكر الناس انطلاقا من المعلومات الواقعية والتجارب السابقة وآراء المتخصصين والباحثين. عقلنة المجال العام تعني أن تدخل الجامعة والمدرسة والقوى الاقتصادية في النقاش العام بدلا من استئثار الخطابات الدينية والسياسية الحزبية بالمشهد العام. عقلنة المجال العام تجعل من الديموقراطية تجربة تربوية حقيقية يتعلم منها المجتمع باختصار كيف يفكر. فكما أن الفرد لا يفكر وهو خائف أو محاط بخطابات الترهيب والترغيب، فإن المجتمع كذلك يحتاج للحرية لكي يفكر بوضوح ويصيب ويضع خياراته أمام محك التجربة. كما أن الحرية هي شرط تحقيق الفرد لذاته فهي كذلك شرط لتحقيق المجتمع لذاته أيضا.