بعد ارتفاع أسعار الحبوب في شهر يوليو الماضي10% بسبب موجات الجفاف التي أصابت أميركا وأوروبا وشرق آسيا، حذر البنك الدولي يوم الجمعة دول الشرق الأوسط وأفريقيا من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، لكونها من أكثر الدول المستوردة للغذاء في العالم.
من بين 7559 سلعة في العالم، هنالك 6391 منتجا صناعيا و1168 منتجا زراعيا. جميع دول العالم دون استثناء، منتجة كانت أو مستهلكة، تتأثر بوفرة المعروض من هذه السلع وأسعارها السائدة في الأسواق العالمية، ما عدا تلك الدول التي تمتلك مخزوناً استراتيجياً آمناً يحميها من هذه التقلبات، مثل أميركا والصين واليابان التي نجحت في تخزين منتجات النفط ومشتقاته تخوفاً من انحسار تدفق الذهب الأسود، وإيران التي أُرغِمَت على تخزين القمح والشعير والأرز والأعلاف تخوفاً من آثار الحصار الاقتصادي المفروض عليها.
عندما دقّت أزمة المواد الغذائية العالمية ناقوس الخطر في عام 2008، كانت الدول الخليجية تستورد نحو 79% من احتياجاتها الغذائية، مما جعلها شديدة التأثر بنقص المعروض منها لدى المنتجين وتقلب أسعارها في الأسواق العالمية. اليوم بسبب زيادة عدد السكان وتراجع الإنتاج الزراعي الخليجي ارتفعت فاتورة الواردات الغذائية الخليجية بنسب غير مسبوقة، لتفوق 70% من كميات الشعير و10% من كميات الأرز القابلتين للتصدير من الإنتاج العالمي لهاتين السلعتين.
دون دراسة عميقة لمعوقات الاستثمار الزراعي الخارجي وأحكامه الدولية المعقدة التي تختلف جذرياً عن الاستثمار الصناعي، لجأت بعض الدول الخليجية إلى الاستثمار في إثيوبيا وتركيا وفيتنام وكازاخستان وأوكرانيا والسودان لضمان توفير احتياجاتها من السلع الغذائية الأساسية.
في أحكام التجارة الدولية، تعتبر المنتجات الصناعية ملكاً حصرياً للمستثمر المحلي أو الأجنبي وله الأحقية المطلقة في تصديرها أو الاكتفاء ببيعها داخل الدولة التي استثمر فيها. أما المنتجات الزراعية فهي ملك حصري للدول المُنْتَجَة لها، حتى لو كان المستثمر في إنتاجها من الأجانب، ويالتالي فإن هذه الدول تمتلك الحق المطلق في منع تصديرها إذا رأت أنها ضرورية لغذاء مواطنيها. يضاف إلى ذلك أن المستثمر في الزراعة الخارجية يلتزم نظاماً بعدم التمييز بين الدول في أسعار بيع منتجاته، فلا يحق له تخفيض هذه الأسعار لدى تصديرها إلى بلاده ورفع هذه الأسعار لدى تصديرها لدولة أخرى.
قبل عامين فرضت روسيا الحظر على تصدير القمح نتيجة موجة الجفاف والحرائق التي أصابت مزارعها، وفي عام 2008 منعت كل من الهند وتايلاند والصين ومصر تصدير إنتاجها من الأرز بسبب النقص الحاد في مخزونه العالمي، وفي 2005 حظرت أستراليا تصدير الشعير بسبب تدني إنتاجه نتيجة موجة الجفاف التي أصابت مزارعه الأسترالية، كما منعت كل من الفلبين وإندونيسيا وماليزيا تصدير زيوت النخيل قبل 10 أعوام لإرغام مزارعيها على تخفيض الأسعار في أسواقها المحلية.
الاستثمار الزراعي الخارجي في جميع الدول الزراعية، سواء كانت متقدمة أو نامية أو فقيرة، يحتوي على عدة معوقات محفوفة بالمخاطر. كازاخستان التي كانت تتربع قبل 22 سنة على المركز السادس في تصدير القمح عالمياً، تراجعت خصوبة أراضيها الزراعية بسبب الجفاف الذي أصاب مزارعها عبر العقدين الماضيين، مما أدى إلى تراجع مكانتها المرموقة للمركز 13 بين دول العالم.
أوكرانيا التي توفّر فرصاً جيدة للإنتاج الزراعي في الشعير والقمح، تواجه اليوم تراجع بنيتها التحتية وانعدام الشفافية في أنظمتها وانحدار مستوى الصحة النباتية في مزارعها. كذلك السودان الذي يتمتع بإمكانات زراعية ضخمة تواجه اليوم تحديات الاستقرار الداخلي وتهالك بنيته التحتية والصراع مع دول الجوار على موارد نهر النيل، بينما تركيا التي تنعم باستقرارها السياسي وتقدّمها التقني وأطلقت العنان لمشاريعها الزراعية ما زالت تُعتبر وستبقى مستورداً تقليدياً للقمح الروسي، إلى جانب مواجهتها للمشاكل القانونية الدولية مع سورية والعراق الخاصة باستغلال مياه نهري دجلة والفرات. أما فيتنام والهند وتايلاند التي تتربع جميعها مع الصين على قمة منتجي الأرز في العالم، فما زالت جميع صادراتهم من الأرز لا تتجاوز 4% من إنتاجهم لزيادة الطلب على هذه السلعة في الداخل وتراجع مخزونهم منها. وأخيراً إثيوبيا، التي يجري في أراضيها 14 نهرا كبيرا وتتحكم بنسبة 77% من منبع النيل العظيم، فما زال 32% من مواطنيها يعانون من سوء التغذية و45% من الفقر المدقع، إضافة إلى حاجتها الماسة لإعادة تنظيم قطاعها الزراعي وضخ الاستثمارات الضخمة في بنيتها التحتية للاستفادة من إمكاناتها الزراعية.
في المقابل يتمتع المخزون الاستراتيجي للغذاء بمقومات متوفرة في الدول الخليجية، مثل الموانئ المؤهلة لاستقبال الناقلات وبناء الصوامع، والقوة الشرائية لإبرام اتفاقيات الشراء طويلة الأجل مع مختلف المنتجين والموزعين في جميع بقاع العالم خلال المواسم التي تتمتع بالأسعار المنخفضة، وجهاز إداري لوجستي يستطيع التحكم في المخزون وتوزيعه في الأسواق لتفادي تقلبات الأسعار والنقص في وفرة المنتج. كما بإمكان القائمين على المخزون عقد تحالفات شراء استراتيجية مع شركات الأغذية العالمية في مجالات التكامل التجاري والصناعي للاستفادة من تدوير محتويات المخزون بوتيرة تضمن توفر السلع الغذائية الرئيسة على مدار السنة ولمدة تترواح بين 5 إلى 10 سنوات في المتوسط.
في ضوء المخاطر والمحاذير والقيود المحكمة على التجارة الدولية، يصبح الاستثمار الزراعي الخارجي عبئاً مالياً مرهقاً، وتصبح الحاجة للمخزون الاستراتيجي ضرورةً ملحةً للأمن الغذائي الخليجي.